لطالما كان الانسان يدافع بشراسة عن مفهوم النظام المحكوم بقواعد ... لكن كل من يتجرد من مثاليته و يحلل بموضوعية ، يرى أنه نتاج قدر لا بأس به من الفوضى !

أولا ، تجدر الإشارة إلى أن الفوضى التي أتحدث عنها هنا هي العشوائية و الحظ و اللانظام ، لا الفوضى بمفهومها السلبي.

الإنسان دون شك كائن يسعى لفرض النظام ، من الوالدين الذان يضعان قواعد البيت ، للمجتمع الذي يفرض نظاما خفيا غير مكتوب يقولب به أفراده ، للدولة التي تحيد القيم و تجعلها تحت سطوتها مشكلة نظاما خاصا بها يعتبر "أرقى" ما وصلت له البشرية من ضبط لحدود النظام حسب بعض الأطروحات ... وصولا لنظام القرن الحادي و العشرين الذي تنتجه باكورة هذا العصر : تكنولوجيا المعلومات .

الكل يسعى للنظام ، لأن الإنسان يسعى للشعور بالأمان كقيمة حيوية .... و النظام يعطيه نوعا من التحكم في مصيره و محيطه و يعطيه وهم التخلص من العشوائية في حياته ، لأن العشوائية ... عدو للإنسان ؟

الواقع أن كل النظم التي بنيت ، دائما ما تقع ضحية صراع بين وجودها ، و بين القيم التي من المفترض أنها تدافع عنها ... و الأمثلة أكبر من أن تحصى .... من منظومة التعليم ، لمنظومة الدولة ، لمنظومة القضاء ، لمنظومة قيم الإنسان ، وصولا لمنظومة الحرية ....

من جهة ثانية ، لطالما كانت الفوضى عنصرا طبيعيا، أساسيا لخلق النظام ... فوضى الغبار النجمي الذي صنع أكبر المجرات ،

عشوائية السوق هي التي صنعت نظامنا الاقتصادي الحالي الذي تدافع عنه أعتى المنظومات للمفارقة (البنوك المركزية) ، و غيرها .... فإذا كانت الفوضى سمة طبيعية في عالمنا ، و بيئتنا ، و وجودنا ..... أفليس التماهي معها هو تماه مع قوى الطبيعة ؟ تماه رانت كل المنظومات الفكرية و الدينية الى تحقيقه للوصول لأقصى درجات الرضا و السعادة و التطور ...

أوليس تجنبها ، ابتعاد عن ماهيتنا و وجودنا و بالتالي انفصال عن واقعنا ؟ أوليست الفوضى هي المحفز الحقيقي لنكون كما على حقيقتنا ، دون تزييف أو أقنعة ؟ نحن كما نحن .... أوليست أفضل محفز و امتحان لغربلة القيم و المبادئ ؟ اوليس واقعنا اليوم و جيلنا الجديد عراب للفوضى و اللانظام ؟

قطعا لن تكون هناك إجابات نهائية لأن الأمر متجذر فينا منذ الأزل .... لازلنا و سنظل في انفصام بين الفوضى و النظام و من يحاول أن يكرس مفهوما على حساب الآخر ، فليتخل عن بعض من غروره ، فمن حاول فشل و سيظل يفشل ..... فطبيعة الإنسان و قدره يظل في مكان بين الإثنين ..... مكان يعيش حربا ضروسا بين اللافعل و الحياد المميت و بين المثالية بعينها.