" عندما نظرت إلى عمر وجدته وقد علته هالة من النور يراها القاصي منه والداني، فأخذت شفتاي ترتعشان، ولا أعلم سبب هذا الخوف الذي ملأ قلبي ؟! فقلت لنفسي: هذا قديس! "
(الجنرال جرتسياني: قائد القوات الإيطالية )
البداية تبدأ في خيمة لإحدى القبائل البدوية التي يرجع نسبها إلى قبيلة قريش العدنانية، هناك قرر رجلٌ يدعى (المختار بن عمر) أن يصطحب زوجته (عائشة بنت محارب) لكي يحجّا معًا بيت الله الحرام، وفي طريقه إلى مكة توفي المختار تاركًا وراءه طفلًا اسمه عمر، ليتربى (عمر المختار) يتيمًا، وليتربى في البيئة الصحراوية البدوية التي أخرجت أبطال الصحابة من قبل، ليصبح عمر المختار فارسًا لا يشق له غبار. وفي نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين انتقل عمر المختار إلى قلب أفريقيا ليجاهد مع إخوانه من مسلمي "تشاد" ضد الغزاة الفرنسيين، ليلقن المختار جنرالات فرنسا دروسًا في فنون القتال العربي، قبل أن يعلمهم بعض دروس "الإتيكيت" الإسلامي في الجهاد ضد الغزاة! عندها ذاع صيت المختار في أرجاء إفريقيا، فانتقل بين القبائل الإفريقية ينشر الإسلام فيها، قبل أن يفرغ نفسه لكي يصبح معلمًا يعلم الأطفال كتاب الله وسنة رسوله.
ولكن في يوم 29 سبتمبر من عام 1911م أرسلت إيطاليا بارجاتها البحرية لاحتلال ليبيا، فتحول عمر المختار من التعليم إلى الجهاد مرة أخرى، ولكن هذه المرة ضد الغزاة الطليان، فقام بتنظيم صفوف المجاهدين، وشن الغارات تلو الغارات ضد صفوف الغزاة، فأخذ الطليان يتساءلون عن هوية ذلك الشيخ الكبير ذي اللحية البيضاء والذي يباغت جنودهم من حينٍ إلى آخر، وبدأ اسم المختار يُتداول في صحف روما، وتغيرت أربع حكومات في إيطاليا نتيجة لهزائم الجيوش الإيطالية المتعاقبة على يد المختار ومن معه من المجاهدين، فتحول عمر المختار إلى شبح يقض مضاجع الإيطاليين، حتى أخذ (موسوليني) على عاتقه مهمة إنهاء أسطورة المختار التي باتت انتصاراته المتتابعة تسبب الإحراج لسمعة إيطاليا في أوروبا، ، فقرر زعيم الفاشية أن يلقي بورقته الأخيرة، فأرسل إلى ليبيا مجرم حربٍ يدعى (غرتسياني)، فقام المجرم غرتسياني بتنفيذ خطة إفناء وإبادة لم يسبق لها مثيل في التاريخ ، فكان أول شيءٍ قام به هذا الفاشي المجرم هو إنشاؤه لأطول جدار سلكي شائك في العالم على الحدود الليبية المصرية، فانقطعت بذلك الإمدادات المصرية إلى المجاهدين في ليبيا، ثم قام مجرم الحرب هذا بإنشاء أكبر معسكر اعتقال في التاريخ، فسجن فيه ما يقرب من نصف عدد الشعب الليبي المسلم، فوضع ثمانين ألف ليبي وليبية في هذا المعسكر الذي كان يتسع أصلًا لعشرة آلاف نسمة فقط، ولم يكتفِ ذلك الغرتسياني بذلك فحسب، بل وضع مواشيهم وإبلهم في ذلك المعسكر الضيق، فأصبح الناس وكأنهم في يوم القيامة، فمات الليبيون موتًا بطيئًا في محرقة حقيقية يأن لها التاريخ ويندى لها الجبين، ولم يبق من الـ 80 ألف ليبي إلّا 15 ألفًا في حالة يرثى لها من المرض والضعف، ثم قام غرتسياني بإلقاء نصف طن من القنابل على المسلمين المدنيين في مدينة "الكفرة" الليبية، قبل أن يقوم الطليان فيها باغتصاب الفتيات المسلمات بالتناوب بينهم، أما الشيوخ المدنيون فقد كان هؤلاء الصليبيون القتلة يُركبونهم على متن الطائرات وهم مغلولي الأيدي والأرجل، ثم يقومون بإسقاطهم تباعًا من فوق الطائرات وهم يقولون لهم : لا تنسوا أن تطلبوا من نبيكم البدوي محمد أن يخلصكم! ثم بعد ذلك يسقطونهم من ارتفاع 400 متر على صخور مدينتهم لتتفجر رؤوسهم أمام أعين أطفالهم ليزرعوا فيهم الخوف، وعلى ذكر الأطفال، فقد كان دعاة حقوق الأطفال هؤلاء يخطفون الأطفال من بين أحضان أمهاتهم بعد أن يتم اغتصابهن، ثم يقوم هؤلاء الصليبيون المتخفين بغطاء الفاشية بإرسال أطفال المسلمين إلى الفاتيكان لكي يعمِّدونهم هناك، فيصبحون نصارى وهم أطفال صغار، ونبقى الآن مع أحد الجنود الإيطاليين الشرفاء يذكر لنا في مذكراته صورًا للإرهاب الإيطالي الذي كان يراه بعينيه فيقول:
• " وفي يومٍ من الأيام قام بعض الجنود بحرق حيٍ كاملٍ قرب بنك روما في مدينة طرابلس، فذهبت هناك لأجد أمامي الجثث الليبية المحترقة، ولكني وجدت ليبيًا ما زال على قيد الحياة بعد أن نالت النيران من جسمه ما نالت، فمد يده لي يطلب المساعدة، فوجدت راهبًا مسيحيًا يعمل في المستشفى العسكري، فطلبت منه المساعدة لحمل ذلك الليبي إلى المستشفى، فنظر إلى الراهب الكاثوليكي بابتسامة فيها سخرية وهو يقول لي: لا تقلق كثيرًا في أمر هذا البدوي المسلم، سوف أهتم أنا بأمره، اذهب أنت إلى المركز وأبلغ القيادة بأن المهمة تمت بنجاح! فانطلقت إلى المركز لكي أوصل رسالة الكاهن الكاثوليكي وعيناي تراقبان ذلك الليبي الجريح وهو ما يزال رافعًا يده باتجاهي يطلب المساعدة، فقد كنت ملزمًا بتنفيذ ذلك الأمر العسكري، إلا أنني تركته بعد أن تأكدت أن ذلك الكاهن المسيحي الطيب سوف يقوم بما يلزم لعلاجه، فأبلغت القيادة بالرسالة، ثم ذهبت لكي أبيت الليلة في المعسكر، ولكنني لم أستطع النوم مطلقًا، فلقد كانت صورة ذلك الليبي تطاردني وهو رافعٌ يده إلي طالبًا النجدة، فقررت أن أذهب إلى الحي المحترق بنفسي في منتصف الليل لأطمئنَّ، فلما وصلت، وجدت جثة ذلك العربي وقد تفحمت، ويده المتفحمة ما زالت مرفوعةُ كما تركتها، فأجهشت في البكاء بشكل هستيري، وقررت أن أرجع إلى المعسكر فأطلق النار على ذلك الكاهن الكاثوليكي المجرم، ثم أطلق النار على رأسي لأرتاح من عذاب ما أراه من فظائع يومية، إلَا أنني تذكرت يد ذلك الليبي المسكين، فقررت أن أفضح جرائم الجيش الإيطالي للعالم، فهربت من الجيش لأفضح أولئك المجرمين في الصحافة"
أقول أنا: والله إني لأشعر بحالةٍ من الغثيان وأنا أكتب هذه الفظائع، ولقد كان لدي فيما وجدته من مراجع ومعلومات الكثير من صور الإرهاب القذر لأولئك الصليبيين القتلة، إلّا أنني آثرت أن أتوقف عن ذكر المزيد منها، لكي لا يصاب القارئ بحالة من الغثيان كتلك التي انتابتني، ولكي أترك للقارئ قليلًا من الدموع التي قد تلزمه في نهاية الكتاب عندما نأتي على ذكر فظائع محاكم التفتيش الرهيبة! أما عمر المختار، فقد كان في هذا الأثناء يتنقل مع المجاهدين في صحراء ليبيا الحارقة ينصب الكمائن للجنود الإيطاليين، فكان يوزع وقته بين الجهاد وقيام الليل، فكان يختم القرآن مرةً كل أسبوع، وينام ساعتين أو ثلاث ساعاتٍ على الأكثر، حتى باغته كمين من الإيطاليين، فأصابوا فرسه، فسقط عمر على يده فانكسرت، فأخذ يزحف على بطنه على رمال الصحراء الملتهبة، فانتبه الطليان له، فأسروه، وبعثوا لغراتسياني برسالة يخبرونه بأن المطلوب رقم واحد لإيطاليا قد تم أسره، فأسرع غرتسياني ليقابل أسد الصحراء، وأترككم هذه المرة مع غرتسياني نفسه يصف تلك المقابلة في كتابه "برقة المهدأة" :
" وعندما حضر أمام مكتبي كانت يداه مكبلتان بالسلاسل، وبالإجمال يخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس كالرجال.... له منظره وهيبته رغم أنه يشعر بمرارة الأسر، ها هو واقف أمام مكتبي أسأله ويجيب بصوت هادئ وواضح: - لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة الفاشستية ؟ فأجاب الشيخ: من أجل ديني ووطني. - ما الذي كان في اعتقادك الوصول إليه ؟ فأجاب الشيخ: لا شيء إلا طردكم ، لأنكم مغتصبون، أما الحرب فهي فرض علينا وما النصر إلا من عند الله. - لما لك من نفوذ وجاه، في كم يوم يمكنك إن تأمر الثوار البدو بأن يسلموا أسلحتهم ؟
يضيف غرتسياني: " وما أن سألته هذا السؤال حتى نظر إلي بنظرة أرعبتني وقال لي بثقة غريبة:
"إننا لا نستسلم أبدًا، نموت أو ننتصر"
ويستطرد غرتسياني حديثه "وعندما وقف ليتهيأ للإنصراف كان جبينه وضاءً كأن هالة من نور تحيط به فارتعش قلبي من جلالة الموقف أنا الذي خاض معارك الحروب العالمية والصحراوية ولقبت بأسد الصحراء. ورغم هذا فقد كانت شفتاي ترتعشان ولم أستطع أن أنطق بحرف واحد, فانهيت المقابلة وأمرت بإرجاعه إلى السجن لتقديمه إلى المحاكمة في المساء" وتمت محاكمة المختار فعلًا بمحكمةٍ قررت مسبقًا إعدامه، وفي عام 1931م تم إعدام هذا الشيخ الذي جاوز الـخامسة والسبعين من عمره، واستشهد عمر المختار رحمه الله أمام أنظار شعبه ، ولكنه كان قد زرع روح الجهاد في قلوب الليبيين قبل رحيله كما زرعها ابن باديس في قلوب الجزائريين قبل رحيله أيضًا، ولكن أي منهما لم يرَ استقلال بلاده الذي جاء نتيجة لجهاده، فرحمك الله يا أسد الصحراء، يا شيخ المجاهدين، يا سيدي عمر المختار.
عمر ........ ما أروع هذا الاسم! فهو اسمٌ عظيم ارتبط ذكره في وجدان كل مسلم، اسم ارتبط بثاني أعظم رجل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، اسمٌ لا يزال يرعب قومًا دمر هو إمبراطوريتهم إلى الأبد، اسمٌ غير مجرى التاريخ وأعاد رسم خرائط العالم، اسمٌ ألهم الشعراء وعشقه الفقراء.............
إيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه يا ابن الخطاب........ هاقد وصلنا إلى ذكرك أيها الفاروق !
يتبع......................
من كتاب جهاد الترباني "مائة من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ"
التعليقات