خلال سنوات حياتي الماضية، اشتركت في الكثير من الأعمال التطوعية في الفرق الطلابية الجامعية، وتعاملت مع أعداد كبيرة ومختلفة من المتطوعين، وقد لفت نظري أمر على مدى هذه الأعوام، والذي لاحظت أنه لا يقتصر على العمل الطلابي التطوعي، بل على المجتمعات ككل بأفرادها ومؤسساتها إلا في ما ندر.
لاحظت أننا نحب أن نختار الخير الذي نريد أن نفعله، أو نساهم فيه، نريد الخير الذي يريحنا، والذي يرضينا ويعجبنا، ببساطة نريد أن نساعد الناس بالطريقة التي تناسبنا نحن، لا بالطريقة التي يحتاجونها.
صحيح أن فاعل الخير كباقي أشباهه من بني الإنسان، ليس منزهًا من الأخطاء، فهو له رصيده من الضعف والزلات، يخطئ هنا ويصيب هناك، يذنب ثم يستغفر، ثم يذنب، ثم يستغفر وهكذا دواليك، لكن أنا مشكلتي ليست في هذا الجانب أصلًا، مشكلتي مع جانب التخصيص في الخير في جوانب، وضربها ومقتها في جوانب ثانية، والحكم على نية فاعل الخير.
في البداية الخير كما هو متعارف عليه، كل ما يصدر عن الإنسان من أفعال حسنة، وأقوال طيبة للمحيطين به؛ من أجل منفعتهم ومساعدتهم، وكسب محبة الناس وتقديرهم، والأجر والثواب من الله – سبحانه وتعالى- على عمل الخير.
الخير، هذه الصفة الفريدة المميزة، تشمل جميع جوانب الحياة بنكهة أخرى عن جميع الصفات الثانية، إلا أننا نخاف في صفة الخير جانبًا مرعبًا، لطالما كان له الدور الكبير في تثبيط وترك الكثير من الناس للخير، بحكم الراحة النفسية، أو كمان يقولون بالعامية «نخلص من وجعة الراس»، في عدة جوانب كان لا بد من وجوده فيها.
هذا الجانب الذي يلتبس على الكثيرين منا، جانب الحكم على نيات من يفعلون الخير والطعن.
الخير دائمًا ما نجده مختبئًا، لا يحب الظهور لتكتمل قدسيته، ويكون خالصا لله وحده، صحيح أن الأصل فيه الستر، لكن لا يجب أن ننسى أن هنالك من يتفاخر بالمعاصي ويحسب نفسه على حق، في هذه الحالة فعل الخير علنًا محمود، ليس من أجل إظهار نبلنا، بل من أجل نشر السلوك الخير القويم، فربما ذاك الذي كان يجاهر بالمعصية يومًا انضم إلى صفنا.
أنا طبعًا لن أنسى أن هنالك الكثير من الناس يستغل ضعف البشر لخدمة مصالحهم وحبًّا في أنفسهم، وقليلون هم أولئك الذين يجهرون بالخير حبًّا في الخير، قليلون هم أولئك الذين يفعلون الخير ويرسلونه إلى السماء، قليلون هم أولئك الذين يفعلون الخير ابتغاء وجه الله وإخلاصًا له، بل هناك من ينفق مالًا حرامًا ابتغاء وجه الشاشات والإعلام، وتجده يذكره في كلّ مجلس، كأنّه لم يقرأ قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» وكأنه لم يسمع أنّ من بين أولئك الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلّا ظلّه: رجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمنيه.
لو كانت نظرتنا إلى جانب الإسلام في الخير فهو حث على الالتفات إلى احتياجات الآخرين دون منفعة دنيوية مرجوة، فمن يعمل الخير ويقصد به وجه الله لا يهمه الشخص الذي يقدم له المساعدة، ويتجاوز مشاعره تجاهه.
حاليًا الكثير منا مقتنعون بأننا لا ينبغي أن نهدر أوقاتنا فيما ليس فيه مصلحة مباشرة لنا، وإن فعلنا فنحن نرقى إلى منزلة القديسين، وأن الخير يمكن أن يتحقق بأن نتخلى عما نحن لسنا بحاجة إليه لمن هو بحاجة إليه، لذلك نجد مجتمعًا يتحول شيئًا فشيئًا إلى غابة يتنافس فيها الجميع ويعيشون على افتراض سوء العواقب قبل كل شيء.
فلان لن يساعدني إن طلبت منه، فلماذا أقدم له العون الآن، فلانة لن ترد لي الجميل، فلماذا أضيع وقتي معها، وكلنا نردد:
ومن يجعل المعروف في غير أهله … يكن حمده ذمًّا عليه ويندم
ولا أعرف لماذا نعتقد أن بيت شعر من العصر الجاهلي هو دستور في الحياة، وننسى أن نردد بدلًا منه: «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»!
أهل الخير موجودون بيننا، لكن الكثير منهم يائسون! طمئنهم يا صديقي! أخبرهم عن قداسة أفعالهم في الأرض، وصداها في السماء، واطلب منهم أن لا يتوقفوا، حتى وإن لم يجدوا لمعروفهم أثرًا بعد. أخبرهم يا صديقي أن البِرَّ دين، وأن أفعال الخير لها عند الله حرمة، يحفظُها ولا ينساها.
أخبرهم يا صديقي عن طول المسير، وانقطاع العلامات، وغياب الأعوان وكثرة الخبث، وازدراء الناس، وأن صاحب المعروف والخير ليس أبله أو ضعيفًا، وإن وُصف بذلك، أو قوبل عملُه بغير ما استحق. وأخبرهم كما أخبرتني أن صاحب المعروف كغيره يُصاب فيقع، لكنه إن وقع وُجد بعد وقعته واقفًا، كرامةً لمعروف صنعه.
ذكّرهم يا صديقي بأن حوائج الناس إليهم، إنما هي من نعم الله عليهم، وأنّ الخير يُهدى إلى السماء وحدها، فمقاييس الجزاء في السماء عن تلك التي في الأرض مختلفة، إنها أعدل وأحكم!
أرجوك لا تنتظر مقابلًا لسعيك من الناس، وإنّما ابتغِ نصر الحق في نفسك وغيرك، أنا لست هنا لأحكم على نيتك وهدفك من فعل الخير، هذه الكلمات تركتها لك يا فاعل الخير بينك وبين نفسك؛ لأن الله أعلم بما في قلبك، وما هي نيتك.
جُل اهتمامي ألا يذهب تعبك وجهدك ومالك في فعل الخير هباء منثورًا!
«وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا».
فلنتأمّل!
أخيرًا أنا أقولها مخالفًا لما أفعله بالعادة، إن هذا الصديق ذات مرة قال لي إن هنالك نوعين من النّاس، أولئك الّذين يقومون بالعمل، وأولئك الذين يُنسب إليهم. وأوصاني بأن أحاول أن أكون من ضمن الصنف الأوّل، فالمنافسة هناك أقل.
اللهم إني أعوذ بك من مظهر يدل على تقواك مع قلب لاهٍ عن ذكراك. اللهم استخدمنا ولا تستبدلنا.
التعليقات