لطالما تساءلت: هل أملك الشجاعة الكافية؟ لا تلك الشجاعة التي نقرأ عنها في الكتب أو نشاهدها في الأفلام. بل الشجاعة اليومية التي تطل برأسها حين تتشابك حياتنا مع علاقات غير متوازنة. أو حين نقف على حافة كلمة يجب أن تقال، لكننا نكتمها...خجلا أو خوفا وربما مجاملة.
في لحظة معينة، لا تعود المجاملة لطيفة كما ألفناها، بل تتحول إلى سجن ناعم. نبتسم، نصغي، نساير وننزف في صمت. إلى متى سنظل نغلف الحقيقة بورق المجاملة؟متى نكف عن قول "لا بأس"حين كل شيء بداخلنا يصرخ "كفى"
الشجاعة الحقيقية ليست في رفع الصوت، بل في رفع الكرامة دون ضجيج. الشجاعة ليست في الردود الجافة أو في الانسحاب الصامت؛ بل في الكلام الواضح حين يكون الصمت خيانة للذات.
في كل مرة أتهرب من قول ما يجب قوله، أشعر بثقل غريب على صدري. ليس الألم في الموقف نفسه، بل في صمتي القاتل عنه.
أتذكر تجربة لم أنساها، أيام الجامعة وخلال فترة دراستي بالإجازة في القانون. وتحديدا بالفصل الرابع، كان يدرسنا أستاذ لمادة (الحريات العامة وحقوق الإنسان) المفارقة أن الأستاذ -مع احترامي -لم يكن يجسد المعنى الذي يدرسه لنا. في كل حصة تراه يتلذذ بالاستهزاء والسخرية ببعض الطلبة. تعليقاته لم تكن أكاديمية بالمرة، بل لاذعة، ساخرة، وكأن الهدف من المحاضرة إضحاك المدرج
والمؤسف!!أن أغلب من في المدرج يبادله الضحكات فتتعالى أصواتهم معلنة عن حزن خفي للطالب الضحية.وكأنهم يستمتعون بعرض مجاني على حساب زميلهم. لا أعلم إن كان ما بادر منهم مجاملة لتجنب الأستاذ ، على أن لا يكون أحدا منهم الضحية التالية...قليل منا فقط شعر بالضيق، لم يكن من تعليقات الأستاذ فقط. بل من هذا الصمت الجماعي من تطبيعنا مع التنمر. من ضحك كان يفترض أن يستبدل باعتراض. بعضنا تمتم "ماشي معقول"وبعضنا صمت ساخطا. وأنا؟
أما أنا، فكنت من القلة التي لم تضحك. لكنني أيضا...خشيت أن أكون هدفه التالي، لكن قررت أن أحتج بطريقتي. لم أعد أحضر لحصصه، انسحبت بدل المواجهة
ربما خوف أم ربما......لكني لم أتكلم.
سألت نفسي في حيرة منها: أليس من المفترض أن يكون أستاذنا حاميا لكرامة الطالب؟أليس من المفترض أن يعلمنا أن "الحق في الكرامة" جزء لا يتجزأ من مفهوم الحرية؟
كيف نصدق حديثه عن الحق المشروع في التعبير وهو يقمعنا ضاحكا؟ كيف ننتظر أن يدرسنا "المسؤولية الأخلاقية للدولة " وهو لا يتحمل أدنى مسؤولية عن كلماته وسلوكه؟
اليوم وأنا أسترجع المشهد، أدرك شيئا كان غائبا عني حينها؛ أن الصمت أحيانا مشاركة غير مباشرة في الظلم وأن المجاملة التي تلبس الخطأ ثوب الصمت، ليست لباقة بل هروبا، وأن الخوف من المواجهة وإن بدا مبررا فإنه لا يغير شيئا بل يطيل عمر الخطأ. وأن من يواجه الظلم، لا يصبح خاليا من الخوف بل يصبح قادرا على ألا يخضع له.ذلك اليوم تعلمت درسا حقيقيا. لا في القانون بل في معنى الشجاعة...الشجاعة التي لم تكن معنا يومها.
الشجاعة يا صديقي لا تعني إعلان الحرب، بل إعلان الحقيقة. وهي لا تأتي دفعة واحدة، بل تبدأ بخطوة كلمة تقال رغم الرجفة. موقف يتخد رغم الرعشة.
نحن لا نخاف المواجهة لأنها قتال، بل لأننا نخشى تبعاتها: أن نُرفض، أن نُنتقد، أن نُتَّهم، أن نقف وحدنا. نخاف أن نبدو "معقدين"وسط جمهور يصفق لأي سلطة حتى لو كانت ظالمة. لكن إن لم نواجه من يتجاوز حدوده اليوم.فمتى؟ وإن لم نحفظ كرامتنا، من يفعل؟
الشجاعة ليست بطولة درامية. إنها فصل بسيط يبدأ بكلمة "لا"
*لا أقبل الإهانة*
*لا أسمح بالتنمر*لا
*لا أضحك على حساب كرامة غيري*
*لا أسكت عن سلوك يخالف ما يفترض أن يكن عليه*
الشجاعة تبدأ حين تكف عن الضحك المجامل والود المصطنع والصمت المرهق والتظاهر بأن الأمر "عادي"لأن ما يبدو عاديا في لحظة. قد يصبح جرحا لن ينسى.
المواجهة لا تعني أن نصرخ أو نثور... بل أن نقول الحقيقة بهدوء. أن تنظر في عيني شخص يستهين بك وتقول له..."أنا لا أسمح بذلك" أن تقول لصديق يستنزفك عاطفيا: "هنا وكفى " أن تخبر مديرك بلغة واثقة حتى إن ارتجفت كلماتك: أن كرامتك ليست بندا قابلا للتفاوض. أن تواجه والديك بكل حب واحترام: "إني أحبكما، لكنني سأختار طريقي وحدي فأنا من سيسلكها يا أبتي". أن تمسك نفسك وتخبر ذاك الشخص المتنمر: "سخريتك المتكررة من كل ما أقول لم تعد خفيفة، إنها تؤلمني" هذه هي الشجاعة الحقيقية.
لكن، هل ستتحرر من الخوف بعد أن تواجه الظلم بالحق؟ هل سيختفي التردد بعد أن تقول كفى في وجه من يعتاد القسوة؟ الجواب ببساطة: لا
أول مرة تتشجع فيها... لن تبدو كما تتخيلها. ستشعر بالوحدة أحيانا. لأنك حين تختار أن تكون صوتا مختلفا، فأنت تخرج نفسك من جماعة الصمت، من صفوف المصفقين، ومن منطقة الدفء الجماعي. ستبدو مشنوقا خارج الصرب، كأنك الوحيد الذي لا يضحك، لا يصفق، لا يجامل.
لكن لا بأس.
لا بأس إن انسحب من حولك من كانوا فقط يرونك مرآة لمواقفهم. لا بأس لأنك اخترت أن تكون أنت، لا مجرد صدى لجماعة تخدر وعيها باسم "تفوتني غأنا والله يسهل"
طبعا، لن يعلو صوتك أول مرة مزلزلا المكان، ولن تتزحزح الأرض من تحت قدميك. بل سيحدث كل شيء بهدوء مريب. ستشعر بدقات قلبك تتسارع، كأنه بدل مكانه ، فاستقر فوق طبل أذنيك.
طبول تدق أبوابا ظلت مغلقة لسنوات. ستسمع صوتك يخرج، لا قويا بل مترددا...لكنه صادق. ستقول الكلمة التي ظلت تخنقك، الجملة التي أجلتها مرارا. ستكتشف أن اعتقادك بأن قول الحقيقة بجرأة لن يجلب المشاكل كما كنت تتوهم. كلماتك قد لا تكون مرتبة، وقد لا يقابلها أحد بالتصفيق، لكنك ستشعر بشيء ينكسر في داخلك... ليس أنت.
بل القيد الذي كنت تضعه على نفسك. ربما تغادر المكان وأنت ترتجف، وحبات عرق تتسلل فوق جبينك. ربما تمشي وحدك بعد ذلك، وتشعر بأنك غريب، ليس لأنك ضعيف، بل لأنك لأول مرة لم تجامل خوفك.
في أول مرة قد تبكي بعد أن ترحل، وتتيه في بحر الأسئلة: هل كنت قاسيا؟ هل أخطأت؟ هل سينقلب كل شيء؟ لكنك تدري في أعمق نقطة بداخلك أنك فعلت شيئا مهما، أنك أخبرت الحياة بوجودك.
ستدرك بعد أيام أو أسابيع أو حتى شهور أن شيئا فيك تغير. أنك أصبحت تقف أكثر، تنحني أقل. أنك لم تعد ذاك الشخص الذي يبلع جرحه في كل مرة ويبتسم. الخوف سيبقى، لكنه لن يتحكم بك، بل سيتحول إلى شيء أنضج: حذر شجاع، وعي يقظ، سيتحول إلى دليل على أنك اخترت الصعب من المتاح. بداية اعتراف بأنك تستحق أن تُسمع، أن تُحترم، وأن تُفهم .. حتى لو بصوت خافت. هي خطوة واحدة، لكنك بعدها لن تعود كما كنت.
أخيرا، أريد أن أقول شيئا واحدا: لا تطلب حقك على استحياء حتى لا يعطونك إياه تفضلا.
التعليقات