الكاتبة: أميرة عبادي
سِيميُولوجيا "عَرين الأُسود"
المخيمات الفلسطينية شهادة حقيقية على النكبات التي حلت بالشعب الفلسطيني منذ عام 1948م، تبين المعاناة الفلسطينية، وفي الوقت ذاته فهي أكبر معالم الصبر والصمود والعطاء الفلسطيني، فالظروف التي جعلت منها بؤرة قهر، أعطتها الدافع لتنفض الغبار عن نفسها وتخرج كالعنقاء من بين الرماد، حتى أصبحت بؤرة ثورة وتمرد على الواقع.
وعرين الاسود هو الاسم المتعارف لمخيم الدهيشة، مخيم عش الدبابير وموطن الأحرار.
إن الشهيد في المخيم يُعد حالة مقدسة لا يمكن المساس بها، وهي القضية الكبرى التي يتفق عليها كل فرد في المخيم، ولا تختلف الأحزاب على هذه القضية وتتفق دوماً على ضرورة استمرارها كنوع من المقاومة والثورة، فأكثر جدران مخيم الدهيشة مُزينة بصور الشهداء، كما أن هناك جدارية كبيرة جداً للشهيد أحمد مصلح ، وحوله أسماء كل شهداء المخيم بخط عريض، وهي الجدارية الأكبر في المخيم، عدا عن أن أكبر جامع فيه هو جامع سُمي بجامع الشهداء نسبةً إلى عدد الشهداء الكبير الذي تم الصلاة عليهم داخل هذا الجامع، وهناك أيضاً جسر يُسمى بجسر الشهيد، تيمُناً بالشهيد أمجد فرج، أما عن الصرح، فاسمه صرح الشهيد والذي يقع أمام المدخل الرئيسي لمخيم الدهيشة والذي يضم قاعة تقام فيها بيوت العزاء عند ارتقاء شهيد أو عندما يتم إحياء فعالية وطنية، كقضايا الأسرى الفلسطينيين على سبيل المثال، وأن هذا الصرح يضم أسماء أقدم شهداء المخيم الذين ارتقوا خلال الانتفاضتين، كذلك المقبرة الخاصة بالدهيشة والتي سُميت بمقبرة الشهداء نسبةً لأن كل القبور بداخلها هي قبور لشهداء ارتقوا أصلهم من مخيم الدهيشة، ناهيك عن أسماء الشوارع والحارات والأزقة، والتي تُسمى كل منها نسبة لشهيد ارتقى في منطقته، فتصبح منطقة الشهيد الفلاني، حتى عند ارتقاء شهيد من مخيم الدهيشة، يخرجون مجموعة من أشبال المخيم ليقومون برسم جداريات له مع ارفاق الشعارات كنوع من التضامن الجمعي والتلاحم والولاء بين أفراد المخيم، ومن الملحوظ أيضاً أن جدران مخيم الدهيشة تتميز بالشعارات المكتوبة باللونين الأسود والأحمر، فالأسود يكتب به كل من يندرج في الحزب الفتحاوي وحسب التحليل لا يقومون باستخدام اللون الأصفر لأنه من الممكن أن يتماهى مع الخلفية البيضاء على عكس اللون الأسود الذي يكون بارزاً عند استخدامه بخلفية بيضاء وبالتالي تمثل الشعارات باللون الأسود حزب حركة فتح، أما حزب الجبهة الشعبية تقوم باستخدام اللون الأحمر نظراً لأنه لون الدم ولون الثورة وهو ما تنادي به هذه الحركة كما أنه الأبرز في ألوان العلم الفلسطيني، وأيضاً، نرى على أسطح المنازل رايات هذه الأحزاب، فالراية الصفراء راية فتح عند رؤيتها على سطح منزل ما يُعرف بأن أهل هذا المنزل هم من الفصيل الفتحاوي، وكذلك الراية الحمراء راية حركة الجبهة الشعبية التي تبرز على أسطح منازل سكان المخيم.
وعند السير في مخيم الدهيشة، يُتاح للناظِر رؤية العديد من أعمدة الكهرباء الخشبية المتشابكة أسلاكها، بأنها تحمل لوحات بِعبارات دينية إسلامية، فتقريباً بعد كل 70 متر يمكن إيجاد عامود كهربائي يحمل لوحة بقلبها عبارة ما، مثل: (اللهُم صلِ على سيدنا مُحمد)/(سبحان الله) .. وغيرها، ويمكن تحليل هذه اللوحات من منظور ديني، وبالتالي يمكن فهم أن مخيم الدهيشة أفراده من فئة الدين الإسلامي، كما وأن وجود ثلاث جوامع مع عدم وجود أي كنيسة أو كنيست في مخيم الدهيشة يؤكد على السلطة الدينية الإسلامية في المخيم، ويؤكد أيضاً على طغاء الطائفة الإسلامية في المخيم، ولكن؛ لم يمنع كل هذا من وجود جداريات تضم الكنيسة والمسجد بجانب بعضها البعض، فهناك رسمة بارزة في المخيم لكنيسة القيامة مع المسجد الأقصى، وإن دل هذا على شيء فإنه يدل على أن ابن المخيم على قناعة تامة بأن موطنه هو موطن الأديان، وأنه لا فرق بين المسيحي أو المسلم، وأن ابن المخيم يعبر عن هويته بمقدساته الدينية المسيحية والإسلامية بأنها من الثوابت الوطنية التي لن يتخلى عنها مهما حدث، أما المباني الأخرى فيحتوي المخيم على مدرستين إحداها للذكور والأخرى للإناث وكِلاهما تابع لوكالة الغوث، وبالتالي هو مظهر ثقافي حضاري يُفسر بأن هذا المخيم يعتني بالتعليم، ويسعى لتربية جيل متعلم قادر على بناء بصمته الثقافية الخاصة، كما صادفت أثناء سيري بالمخيم ، ولأول مرة أرى بأن هناك حارة معلقٌ بها ورقة بيضاء على الحائط، هذه الورقة مثقوبة من زواياها الأربعة، وداخل الثقوب قطع قماش صغيرة تربط هذه الورقة بدرابزين شباك بيتٍ ما، مكتوبٌ عليها (لو سمحت ترميش زبالة هان)، ولفتت هذه الورقة انتباهي لأني اعتدت أن أرى القمامة في هذه البقعة من الحارة، ولكن في تلك المرة لم أجد البقعة ممتلئة بأكياس النفايات، فنظرت حتى وجدت هذه الورقة معلقة بطريقة بسيطة، ولغتها شعبية مخيمجية، وحسب رؤيتي على مدى 3 أيام لم أجد أياً من أكياس القمامة في تلك المنطقة، وبالتالي كانت طريقة ناجحة وفعالة وبسيطة، فبساطتها أقنعت الأفراد بها، لأن البساطة من الأمور التي تميز أفراد الدهيشة كونهم أفراد اعتادوا البساطة، فألقت تجاوباً، وأيضاً من الرموز الملحوظة في مخيم الدهيشة، وجود حذاء قديم غير صالح للاستعمال، هذا الحذاء مربوطٌ فردتيه بعقدة الرباط الخاص بالحذاء نفسه، معلق على أسلاك الكهرباء في الحارات، فرأيت 3 أزواجاً من الأحذية كل منها في حارة ما، وعندما سألت بعض الأشخاص، تبين لي أن وجود حذاء معلق على أسلاك الكهرباء في حارةٍ ما، ويرمز ويدل على وجود تاجر حشيش في هذه المنطقة وهو الجواب الأرجح، أما البعض الآخر فهم قالوا بأنها مجرد أحذية يتخلصون منها الأفراد فيعقدونها ويلعبون بها ويرمونها من باب التسلية، فتُعلق على الأسلاك من باب اللعب، وأيضاً، هناك أمام صرح الشهيد صورتين الأولى للشهيد ياسر عرفات الرئيس السابق لفلسطين، والثانية صورة صدام حسين الرئيس السابق للعراق، وأن هاتان الصورتان ترمزان للعلاقة الجيدة بين فلسطين وشقيقها العراق، كما أن وجود صور قادة الأحزاب على جدران المخيم كأيقونات جانب بعضهم البعض دلالة على العلاقة التي غالباً ما تكون جيدة وصديقة مع بعضها البعض، مثل وجود جداريات ياسر عرفات وجورج حبش وأحمد ياسين، وهي ما ترمز إلى الوحدة الوطنية في المخيم.
فمخيم الدهيشة هو مَوطِن اللآجىء والفقير، مَوطِن من لا مَوطِن له، هو الذي يُعَّرِف عن نفسه برموزه، فبأيقوناته وصوره وروسوماته وجدارياته يتم فهمه، وكل ما فيه يُعرِف عن هذا الموطِن، ويستمد مخيم الدهيشة هويته من مفتاح العودة، وأسماء القرى التي هُجِر الفلسطينيون منها المنتشرة كتابةً على جدران كل المخيم.