شقائقُ الدَّم.

لمْ يتوقّف المطر لليوم الثالث على التوالي، بالكاد تظهر الشّمس لدقائق ثم تختفي خلفَ الغيوم الرمادية، نارُ الحطب داخل المدفأة تبدو حقيقية، لكن رائحة الغاز تفضح الأمر. الكل مزيف، فلا الحطب يحترق ولا النار تحْرِق فبضغطة زرٍّ واحدة تتحكّم في توهّجها ومصيرها. لن يكون هناك جمرات أو رماد، ولن ينبعث عطر الحطب المحترق، ستبقى قطع الخشب كاملة كما هي، للزّينة فقط ..

على المائدة الصغيرة صينية حلوى (وردة الرمال). فوق السرير الواسع المُغطّى ببطّانية ذات مُربعات بيضاء وسوداء تشبه بالضبط رقعة الشطرنج ،تواجدت بيادق ثلاث، مُنى مع زوجها سليمان، وصغيرها علي ..

-ماما هل يمكن أن آخذ قطعة حلوى معي للسّرير؟

- نعم صغيري، خُذ الصّينية كلها لو أحببت ..هذه الليلة كل شيء مسموح .

_ و لِمَ هذه الليلة بالذات ؟ سألها زوجها سليمان.

ردت منى بطريقة آلية : في مثل هذا اليوم منذ عامين كنتُ أُعدّ هذه الحلوى لوالد علي، لكنّه لم يَعُد ليتذوَّقْها، كان شغوفا بها , رحلَ دون وداع 

_وهل أنت تفعلين ذلك لأنك تتوقعين أن يأتي شبحه مثلا لتناولها، أم تحتفلين بموته بِطَهْو وُروده الرملية المفضلة ؟ قالها ساخرا .

- بل أحتفلُ بنجاة صغيري من موت مُحقّق.

_ربما أنت تشتاقين له، لذا تستدعينه بهذه الطريقة، أم تُراك تطلبين العفو لأنك تشعرين بالذنب ؟

صمتتْ ولم تَرُد وغرقتْ في تصفّح هاتفها، وهي تقاوم ذَرف الدموع .

وصلتْها رسالة منه عبر المحادثة كانت عبارة عن زهرة (أوركيد الفانيليا ). مباشرة فهمت معناها لذا تبسّمت له قائلة : لِمَ ترسل لي هذه الأوركيدة منذ ليلة زفافنا ؟

_هل تَذْكرين معناها ؟

- نعم (حبّنا نادر وجميل ). قَبْلك لم أكن أعلم أن للزهور لغة، أنت علّمتني إياها، كانت هي سبب سقوطي في فخِّ مُستهترٍ مثلك . قالتها وضحكتْ بصوت عال .

-إذن أنا مستهتر أيتها الأرملة السوداء، تعالي هنا وضمّها بحب وحنان .

- نعم كان استهتارًا منك أن تتزوج أرملة مع طفلها، ثم إنك كنت أعزبا وتصغرني بعامين ...

-كنتُ كُلما تصدّينني أتشبث بك أكثر.

- ليس غريبا، ذلك طبع الرجال، يعشقون الصدَّ والرفض . وضحكتْ مجددا.

- أنتِ تناورين، تعرفين أن هذه النظرية الغبية لا تنطبق عليَّ يا قرنفلتي البيضاء. الأمر بكل بساطة أني كنتُ متفائلا، وكنتِ يائسة لذا انتصرت عليك.

- الحب العميق، هذا معنى الزهرة، أنتَ ماكرٌ حقا .

- هل تذكرين لقاءنا الأول ؟

- في مَحلّك للزهور طبعا، كنتَ خبيرا بلغة الورود وتُجيد الاعتناء بها. كنتَ تُميّز الوردة السامة عن غيرها، والزهرة القاتلة من البريئة لذا كان سهلا جدا عليك إيقاع أرملة في حبك، لكن اهتمامك بصغيري منذ أول مرة وتعلّقك به كان باعثا للفضول، وشجّعني فيما بعد على القبول بك.

- كان حبّا من أول نظرة له ولك ، ياوردتي السامة. وغَرِقا في الضحك معًا وعادا يتصفّحان هواتفهما.

في الخارج المطر مازال يهطل ...

- سليمان ، قرأتُ الآن موضوعا مرعبا هل سمعت بفضيحة (Pizzagate)؟

-وهل البيتزا تعمل فضائح ؟

- لا، ركِّزْ معي الأمر خطير ومرعب حقا ، يتعلق الأمر باختطاف الأطفال و استغلالهم، يصل الأمر حدّ القتل واستخراج حمض نادر فيهم ليُقدَّم كقرابين لشياطين فئة الخاطفين، والأدهى أن ما يُسمّى بنخبة العالم في السياسة والفن هُم على رؤوس قائمة الشر.

-وهل تُصدقين ذلك ؟

- نعم لِمَ لا أصدق، الموضوع بالأدلة، وكل شيء يبدو منطقيا جدا، لكن حقا لا أُصدق أن ذلك الممثّلَ ذا الوجه الطفولي يكون بهذا القدرِ من الشذوذ والإجرام .. !

-تقبَّلْتِ القصة كلها ولم تتقّبلي أن ممثلا قد يكون ممثلا أصلاً. وضحك بصخب مضيفًا "أنتِ حقا بلهاء" .

- لا ليس كما تصف، لكن حقا هذا العالم صار مرعبا، وصار البشر مصدر الشر المُطلق ..

-وما هذا الآن أطفال الزهرة؟ ! قال ذلك وهو يُشاهد معها صفحة على هاتفها بذاتِ العنوان ..

- لا أعلم. لمْ أقرأ بعد، لكن أشعر أن كل شيء مرتبط ببعض، كوكب الزهرة هذا أحد رموز عقيدتهم الشيطانية .

-بدأتِ تَهْذين، هيا للنوم حالا يا حلوة .

- لا ، ليس الآن يجب عليّ إنهاء هذا البحث الليلة والكتابة عنه، وتسليمه، غدا هو الموعد الأخير .

-حسن، سأذهب للنوم مع "علي". خُذي راحتك أيتها البَقْلَة الحمقاء، لاتغضبي هو اسم لنبتة ابحثى عن معناها، لكن حذاري أن يجرفك السّيل خصوصًا أن المطر يزداد غزارة . وغادر الغرفة .

مع كلّ كلمة تقرأها كانت "منى" تكتشف حكايات بشعة عن الجن والسحر والشعوذة، وكيف يتم خطف أطفال يحملون علامات معينة، ويطلق عليهم الزّهريين، يتم خطفم من طرف السّحَرة ثم ذبحهم ، وتتبّع مسار الدّم الذي سيُوصلهم لمكان كنوز النبي( سليمان) المُخبّأة.

لكن مهلاً، هذه العلامات المميزة للطفل "الزّوهري" في كفّ يده اليمنى التي يوجد بها خط مستقيم ومُتّصل يقطعها بشكل عرضي، ولسانه يكون "مقسوماً" بخطّ طولي أيضاً يُوزّعه إلى قسمين، وعيناه ذاتا بريق خاص وتكون نظرة العين اليمنى كأنها تصبّ في العين اليسرى ....عند هذا الحد قفزت من السرير وأسرعت فزعة تستنجد بزوجها

 تتّجه صوب غرفة صغيرها ، طفلها "علي" إنه (زُوهري ) ..

حين دخلتْ لم تجد أثرا لأيّ منهما، فتَّشت المنزل كله، لكن لا أحد هناك..

. المظلة مُعلّقة في مكانها. خرجتْ مسرعة، لاشيء غير الظلام والسكون ..

عادتْ لغرفة طفلها، صينيّة الحلوى كاملةَ العدد وفوق سريره المُغطّى بالأبيض كانتْ هناك وردة "شقائق النعمان " .

تمت