دَرَج الإنسان منذ القِدم على البحث عن وسيلةٍ ينقل من خلالها أفكاره ويُعبِّر فيها عن آرائه، فهذه فِطرةٌ بشرية ملازمة له، ولا شكَّ أنَّ الكتابة تشكل عاملاً مهماً في تصدير الأفكار والتعبير عن الآراء، ومن وجهة نظري يُشكل المقال بأنواعه المختلفة الوسيلة الأكثر تأثيراً في الكتابة، وذلك من خلال قدرة الكاتب تسخيرَ المقال في قوالبَ شتَّى، فمن المقالات ما تكون ذات طابع ديني، أو أدبي فكري، أو سياسي واقتصادي، وإلى غير ذلك من أنواع المقالات المستخدمة.

وبغضِّ النظر عن النوع المستخدم، يُشكل المقال عموماً أهميةً كبيرةً في مجال الكتابة، كونه يشتمل على تقديم المعلومات والأفكار وعرضها بأساليب متنوعة، إضافة إلى اشتماله على رأي الكاتب وتوجيهاته حول المسألة التي يكتب عنها، وهذا كله خلافاً للأنواع الكتابية الأخرى كالأخبار والتقارير والتحقيقات، وأيضاً في ظلِّ الثورة التكنولوجية الحاصلة اليوم في مجال الإنترنت وانتشار المدوَنات الشخصية ومواقع التواصل الاجتماعي تزداد الأهمية للمقالات خصوصاً والكتابة عموماً.

ولكن؛ ثّمَةَ سؤالٌ مهم قبل أن نبدأ الحديث عن كيفية كتابة المقال ومعرفة خطواته، وهو؛ لماذا أكتب المقال؟.

إنَّ الكاتب الحقيقي لا بدَّ أن يحمل فكرة ومنهجاً وهدفاً معيناً يسعى لتحقيقه أو ترويجه من خلال الكتابة، خلافاً لما ينتشر اليوم من الكتابات التي لا تقدم مضموناً علمياً أو ثقافياً للمجتمعات، فهذه عيّنات لا تستحقُّ إضاعة الوقت في بيانها أو قراءتها، ولكنَّ الكاتب يجب أن يكون ممثلاً للدعوة أو الهدف النبيل الذي يحمله، وحتى لا أطيل كثيراً من هذا الكلام الإنشائي، لا بدَّ للكاتب قبل أن يكتب كلمة واحدة أن يُحدّد هدفاً لكتابته يسعى من خلاله لخدمة مجتمعه وأمّته، فمن الكتاب من جعل من كتاباته نُصرةً وإبرازاً لقضايا أمّته المختلفة، ومنهم من ذهب يُثري الجوانب العلمية والثقافية والأدبية كتابة وبحثاً وتأليفاً، كلٌّ حسب مقدرته وطاقته.

والآن؛ فإنَّ كتابة المقال الناجح لا بدَّ أن تمرَّ بمراحل عدّة حتى نستطيع الوصول إلى مقالٍ متكامل ومترابطٍ بفقراته وأفكاره، ويُقدّم رسالةً واضحةً، وسأذكر هذه المراحل مع تفصيل لكلِّ واحدة منها:

المرحلة الأولى – تحديد الفكرة أو الموضوع.

فكلُّ مقالٍ له فكرة، فأوّل خطوة على طريق كتابة المقال هي انقداحُ الفكرة في ذهن الكاتب حول قضية معيّنة، فيعطي الكاتب فكرته وقتها كي ترسخ في ذهنه، وربما تستمر الفكرة في الذهن أياماً أو ربما أسابيع، وذلك حسب نوع الفكرة أو حجمها، وكذلك حسب مؤهلات الكاتب وقدرته على الإنجاز.

وفي خلال هذه المرحلة يضع الكاتب عنواناً لمقاله يلخص تلك الفكرة ويدلُّ عليها دلالة إجمالية، وربّما بعض الكتاب يضعون العنوان بعد الانتهاء من كتابة المقال، فكلَّ كاتب وله طريقته التي ينسجم معها وتحقق مقصوده، أمّا أنا فإنني أضع العنوان بعد تحديد الفكرة مباشرة وقبل البدء في الكتابة، وحقّقت عندي نوعاً من المساعدة في استجماع الأفكار أثناء الكتابة، فإنّني أظلّ في استذكار مستمر للعنوان مما يساعدني على عدم التشتت بعيداً عن الفكرة الرئيسية للمقال.

المرحلة الثانية – استجماع المعلومات حول الفكرة.

فيبدأ الكاتب حينها باستجماع المعلومات حول فكرته التي يريد الكتابة عنها، فيستجمع معلوماته الخاصة وخلفياته عن الفكرة، وربما يستعين ببعض المراجع والمصادر للاستزادة من المعلومات أو التأكد من صحتها، وهنا أحببت التنويه إلى مسألةٍ مهمة؛ وهي الاستعجال في كتابة المقال قبل أن تستوفي الفكرة وقتها، أو قبل إكمال جمع المعلومات حولها، وهذا أمرٌ ينتج عنه عجزٌ في كتابة المقال أو ضعفٌ في موضوعه وأسلوبه، فهذه نقطة وجَبَ الانتباه إليها، فيجب أن تأخذ الفكرة وقتها وتستكفي جمع المعلومات، فانتبه جيداً ولا تكن عجولاً فإنّك ستكتب المقال إن شاء الله.

المرحلة الثالثة – إنشاء المخطط أو الخريطة الخاصة بالمقال.

هذه مرحلة مهمة بالنسبة إلىّ، وينبغي أن تكون كذلك عند كلِّ كاتب يرنو إلى النجاح، فهي تختصر نصف كتابة المقال علينا، وتساعد الكاتب على التركيز أثناء الكتابة وعدم التشتت والاستطراد والاكثار من الحشو في المقال الذي نقع فيه أحياناً.

وهذه المرحلة تكون بتقسيم المقال إلى عناوين فرعية تتفرّع من العنوان الرئيسي، وكل عنوان من تلك العناوين يُمثّل فقرة من فقرات المقال، ثمّ تبدأ بالكتابة عن كلِّ عنوان بما تملكه من معلومات أو قمت بجمعها، ومع نهاية الكتابة عن الفقرة الأخيرة ستكون قد انتهيت من كتابة مقال كامل بكلّ بساطة.

وكما قِيل: مع المثال يتّضح المقال، فإنّني سأمثّل لهذه المرحلة بالتقسيم التي اتبعته في كتابة المقال الذي تقرأه الآن، فقمت أولاً بوضع العنوان الرئيسي في وسط صفحة فارغة، ثمّ بدأت بتفريع العناوين الفرعية منه مبتدءاً من الأهم ثم المهم، وكان العنوان الرئيسي هو (دليلك إلى كتابة المقال)، ثمّ فرّعت منه (المقدمة)، ثم (لماذا أكتب مقالاً)، ثم (مراحل كتابة المقال)، ثم (الخاتمة مع توجيهات أسلوبية).

ولكنني مع ذلك أودُّ التنبيه إلى أمرٍ ما؛ وهو المحافظة على ترابط تلك العناوين والفقرات حتى لا نفقد الترابط العام لفكرة المقال، فيجب أن يبقى الكاتب يقظاً لسير الكتابة وتسلسل الفقرات والأفكار.

واعلم أيضاً أنّ المقال من حيث البناء ينقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية وهي [المقدمة - المتن - الخاتمة].

فالمقدمة تحتوي على تمهيد وتوطئة للفكرة عموماً وقد تحتوي على تعريفات أو مصطلحات متعلقة بالفكرة الرئيسية، ثم المتن وهو مضمون المقال ويتضمن المعلومات التي جمعها الكاتب أو الدراسات حول الفكرة وكذلك يتضمن رأي الكاتب عند بعض الفقرات، أمّا الخاتمة فتحتوي على خلاصة ما توصل إليه الكاتب خلال المقال أو مجموعة من التوجيهات والتوصيات التي يهدف إليها، هذا باختصار.

المرحلة الرابعة – البدء بالكتابة

هذه الخطوة الأخيرة في كتابة المقال، فيبدأ الكاتب بكتابة ما رسخ في ذهنه من الأفكار وما استجمع حولها من المعلومات مستعيناً بالمخطط الذي كتبه وأعدّه وفق أسلوب مترابط متناسق.

وهنا لعلّي أستوقف نفسي معك عند عددٍ من النقاط المهمة في مسألة الكتابة التي تواجه الكاتب، فلا بد للكاتب أولاً أن يحافظ على مستوًى لغوي جيَد، دون إفراطٍ أو تفريط، فاحذر أن تكون لغة مقالك ضعيفةٌ ركيكة، واحذر كذلك أن تكون معقّدة فلسفية تتعالى فيها على القارئ، واستخدم لغةً يفهما عامة الناس، وأيضاً يجب الحذر من استخدام المفردات والمصطلحات المُوحِشة الغريبة التي لا يفهمها إلا أهل الصَّنعة اللُّغوية، فهذه أساليب مذمومة غالباً، تستفزّ القارئ وتُنفّره عن القراءة.

والحقيقة أنّنا اليوم نعاني من الكتابات التي يُغرقها أصحابها بالأساليب البنائية والبلاغية الكثيفة، مع إهمالٍ واضحٍ وضعفٍ ملموسٍ في المعنى العلمي والثقافي، فلا بدّ للكتابة أن تُقدّم نفعاً للقارئ وليس متعةً لحظيةً أثناء القراءة فقط، ولو أنّنا استطعنا تحصيل المعاني العلمية والثقافية مع أساليب بنائية وبلاغية موزونة لكان خيراً، ويُعطي الكتابة قوة ورصافة وزخامة في المبنى والمعنى، ولكن إن حصل التعارض بينهما فإنّنا بلا شك نقدّم تحقيق المعنى على تحقيق المبنى.

والعنصر الأهم في كتابة المقال، وفي الكتابة عموماً، هو الممارسة والاستمرار في الكتابة حتى تتحقق النتيجة، فالدُّربة والمِران هما أساس الكتابة، وكل بداية لها عقبات وصعوبات ولكنَّ العلاج في الاستمرار بمزيدٍ من الكتابة والقراءة أيضاً.

ودعني أخبرك سرّاً مرَّ به جُلُّ الكتاب، فلو أنَّ كاتباً كتب مقالاً في بداية طريقه، ثمّ أتبعه بمقالات أخرى بعد فترة من الزمن لنظر نظرة ازدراءٍ لمقالهِ الأوّل، وشنّع على نفسه وبالغ، لأنّه سيلاحظ كمَّ الفرق بين الكتابتين وذلك نتيجة لتطور الأسلوب الكتابي والعلمي لديه، ولا أكذب إن قلت أنَّ الكاتب ربما يتبرأ من كتاباته القديمة عندما يرجع إليها بعد زمن، ويقول: أنا كتبت هذا؟!

كلُّ ما عليك أن تستمر في الكتابة، حتى لو فشلتَ المَرّة والمَرّتين، حتى لو أحبطك البعض وقلّل من شأن كتاباتك، فهذا أمرٌ طبيعي، المهم الاستمرار في المحاولات الكتابية مع الدُّربة والمِران والسعي الحثيث على تنمية القدرات العلمية والثقافية، ولا تنسى التركيز على زيادة المخزون اللُّغوي والأدبي فهو معيار مهمٌ جداً في الكتابة عموماً، ومع الوقت ستجد نفسك كاتباً تنافس أكابر الكتّاب، ولا تستغرب من ذلك، وأخبرني؛ هل خرج أولئك الكتّاب من بطون أمهاتهم يمسكون ورقةً وقلماً؟

وانتبه؛ لا تصدّق من قال لك أنّك ستصبح كاتباً في ليلة وضحاها، هذا ليس إحباطاً، بل هو إخبار بالواقع حتى لا تصطدم به، فقط استمر في الكتابة واستعن بالله.

وأختم مقالي بالقول: أنّنا اليوم بحاجةٍ إلى كتّابٍ يستشعرون ويستحضرون القيمة العلمية والثقافية والأدبية والأخلاقية في كتاباتهم، فالكتابات والمؤلَّفات كثيرة والحمد لله، ولكننا بحاجةٍ إلى تقديم كتابات تساهم في إثراء المخزون العلمي والتوعوي والأخلاقي لدى أبناء أمتنا ومجتمعاتنا، نحن لا نحتاج إلى كتابات رنانة وأساليب بَرَّاقة لا تقدّم ولا تؤخر شيئاً، إنّما تُحقّق تسلية لحظية أثناء قراءتها فقط ثمّ تنجلي وترحل، بل نريد كتابة تحمل العلم والمعاني والآداب والأخلاق لتستقرّ في النفوس والقلوب، ويبقى أثرها تطبيقاً عملياً في حياة القارئ، فانتبهوا لهذا الأمر جيداً، وكي نُحقّقه يجب أن نسأل أنفسنا كلَّ مرّةٍ؛ (لماذا نكتب؟).