المرأة..المُلهِمَة والشاعرة
كتب : صالح عبده اسماعيل الآنسي
_______________
في إعتقادي أن المرأة بما حباها الله عز و جل من بنية فيسولوجية ونفسية فريدة ، تتمثل في غناها الكبير بعناصر الجمال الحسي والروحي ، وأهميتها ودورها الذي تلعبه وتمثله في هذا الوجود ؛ كانت ولا تزال هي المصدر الأول للإلهام الشعري ، ولكل قيم ومعاني الجمال والخير والحب والفضيلة منذ فجر الإنسانية ، إلى جانب مصادر الإلهام الشعري الأخرى المعروفة ، فهي وكل ما يتعلق بها من مواضيع من أول الأغراض التي ظل يتناولها الشعر و يطالها بكثرة.
وكيف لا تكون كذلك…؟! ؛ وهي المحور الذي تدور عليه كل يوم عجلة الحياة ، والَّرحِمُ الذي يُولَد ويتجدد منه في كل حين إنسانها ، وهي أول شكلٍ ماديٍ جميلٍ وقع عليه بصرُه وأنِسَ إليه منذ أن أَلقى وليداً نظرته الأولى إلى وجهها الملائكي الوديع ، وأول صوتٍ دافئٍ شجيٍ شنَّفَ سمعه ، وعنها تلقى أول أبجديات اللغة والنطق، وهي بأمومتها بحر المشاعر العذب الأول الذي غمره باللطف والعطف والرحمة والحنان والحب ، وهي بما حباها الله -أيضاً- من رقة الإحساس والشعور، ودقة الملاحظة ، وقوة الوجدان ، وغنى العاطفة، وتناهي الذوق السليم ، وسعة الحيلة والدهاء ؛ أكثر إحساساً بكل معاني وقيم الجمال والفن في الكون والحياة.
وقد لا أكون مبالغاً ؛ لو ذهبت إلى القول : “أنها ربما قد تكون أول من نظم الشعر وترنم به متغنياً ، وعنها أُخِذَ هذان الفنان وتطورا حتى وصلا إلى ما هما عليه الآن”.
والشواهد لمن أراد أستيضاح إحتمالية ما ذهبت إليه كثيرة ، مأخوذة من مواقف الحياة اليومية للمرأة في كل عصر ومصر ، فلا شكَّ أن كل فردٍ منا قد لَمِسَ ما يُدلل على وجود القدرة الفطرية لها على نظم الشعر والغناء ، منها على سبيل المثال لو عدنا بالذكرى إلى العهد الذي كنا فيه صغاراً في سنوات أعمارنا الأولى ، نستمعُ بإرتياح بالغ إلى أُمهاتنا وهن يُهدهِدننا ويُناغيننا شادياتٍ بأجمل الأبيات وأعذب الألحان، والتي غالباً ما كانت بكلماتها القصيرة وإيقاعها الخفيف تأتي منهن وليدة اللحظة ، وتصدر عنهن بشكلٍ عفويٍّ ومُرتَجَل ، أو قد تكون من موروث التراث الشعبي المتناقل عبر الأجيال، وإذا كانت “الحاجة أُمُّ الإختراع” كما يُقال ؛ فقد تكون المرأة الأُمُّ -ربما-هي أول من نظم الشعر وتغنى به لطفلها ؛ لِمَا رأته لذلك من تأثيرٍ مُهدئٍ عليه ، ومُريحٍ و مُسَكِنٍ لَه.
ثُمَّ إذا كان الشعر ليس مجرد رص كلمات على إيقاع نمطيٍّ مُعيَّن ، وإِنما هو مزيجٌ جميلٌ من المُفرَدَةِ العفوية المُختارة، و الصورة والخيال،والفكرة والمعنى، والعاطفة والوجدان…المصبوب في قالبٍ فنيٍ واحد، المشحونٌ بقضيةٍ ما ، أو المعبر عن تجربة ؛ فالمرأة الشاعرة…وهي الأقوى والأغنى وُجداناً وعاطفةً ؛ يأتي أغلب شعرها ونتاجها الأدبي بكل ألوانه أغنى بهذين العنصرين وأصدق تجربة ، وبالتالي أكثر تأثيراً وتحريكاً للمشاعر في نفوس المتلقين ، وإقناعاً بالفكرة والمعنى المراد توصيلهما إلى الأذهان ، لا سيما ونحن نعلم أهمية توافر هذين العنصرين في الشعر ، وأنه بدونهما يكون مجرد كلام جاف مرصوص خالٍ من المشاعر والأحاسيس، وأقرب ما يكون إلى النظم العلمي منه إلى الشعر ، وتلخيصاً لكل ما سبق أقول :
” أن المرأة طالما كانت وستظل هي مادة الشعر الأُولى غَرَضَاً وباعِثَتُهُ إلهاماً ، وأن نتاجها الشعري المشبوب بقوة الوجدان وغنى العاطفة هو بالتالي الأكثر تأثيراً في المتلقين”
ولست فيما أسلفت ؛ أدعي أن كل أُنثى قد تكون شاعرة بمجرد عفوية تمكنها من نظم أبيات قليلة عابرة تترنم بها في ثنايا أوقات الحياة اليومية الخاصة ، فالأمر نفسه قد يحدث بشكل عفوي أيضاً من الرجل ، إذ أن الشعر موهبة لا يُفطَرُ عليها ويتمتع بها إلا النزر القليل من الجنسين ، ينميها ويصقلها الأستمرار وكثرة الإطلاع والدربة ، ويساعد في تشكيله وإثراء تجربته وفي نضوجه..كثرة الإنتقال و السفر والمشاهدات والإلتقاء والتواصل بالمهتمين به من شعراء وشواعر ونقاد ومتذوقين.
ولست بصدد إثبات قدرة المرأة الشاعرة على كتابة نتاج أدبي يوازي أو يماثل نتاج شقيقها الشاعر الرجل من حيث قيمة المضمون وجودة السبك ، أو لعقد مقارنة بينهما ، أو دفاعاً عنها وإستهجاناً من سخرية من يقول :
” أن المرأة لم تُخلَق لتكتب الشعر ، ولكن ليُكتَبُ الشعرُ فيها ”
إذ أن المرأة الشاعرة -بنفسها- قد تولت إثبات ذلك لنا ،والدفاع عن شاعريتها أمام كل من ينتقصون منها ، ويقللون من شأنها ، بما ملأت به رفوف المكتبة العربية والعالمية ، والصحف والمجلات ، والمنتديات ومواقع التواصل الإجتماعي ؛ من نتاج شعري ثري ومُبهِر ، منشورٌ لها ورقياً و ألكترونياً ، ومتناقل بالصوت والصورة الحية، ومترنمٌ به في لحنِ أنشودةٍ هادفة ، أو أغنية مؤثرة…تماماً..كحال ما وصل إليه نتاج الشاعر الرجل من النجاح والإنتشار والذيوع والشهرة.
ولست أيضاً فيما ذهبت إليه..بعد طول إطلاع وتأمل في النتاج الأدبي لكلا الجنسين..قد أبدو منحازاً إلى طرف ما ، لأني أَعي جيداً أن لكلٍ منهما خصوصيته المختلفة عن الآخر ، في دوافع الكتابة ، وأغراض التناول، وإستخدام اللغة والخيال والتصوير وتوظيف المفردة ،فلكلٍ أُسلوبه ولونه الذي يميزه ، ولكلٍ نصوصه الناجحة ، وكلماته المؤثرة الرائعة ، وكبواته وسقطاته ونواحي القصور لديه.
وعندما قلت أن من بين ما قد يميز شعر المرأة عن شعر الرجل..هو أنه الأقوى والأغنى بعنصري الوجدان والعاطفة ؛ فذلك لا يعني أني لا أرى شعر المرأة أوشخصها إلا من هذه الزاوية فقط ، أو أني لِمَا قد نُسِخَ عنها في الإذهان من صورة مشوشة تربط بين أنوثتها والضعف نتيجة لظن لصوق هاتين الصفتين بها وغلبتهما عليها ؛ أراها أيضاً كما يرون…بل أرى أن ذلك من عوامل ومقومات قوتها..لا ضعفها..ومن علامات إكتمال أنوثتها ، فلها أن ترضى وتفخر بما حباها الله عز وجل من خصال تميزها ، ولها أن تعتز بأنوثتها ، لا أن تعتبر ذلك مما قد يشينها أو يعيبها ، فتفسح بذلك الطريق أمام الذين أعتادوا أن ينظرون إليها نظرة قاصرة ، أو يحملون عنها وعن الأنوثة بشكل عام إعتقادات باطلة ومفاهيم مغلوطة ؛ أن يستمروا في تماديهم بذلك.
وليس عليها كردة فعل إزاء كل ذلك ؛ أن تحاول التخلي والإنفلات عن سجيتها وطبيعتها كأنثى وكمرأة شاعرة…فتجنح إلى تقمص طبيعة الرجل الشاعر والتشبه به في كل ما يكتب ، فتصبح :
” شاعرة مُستَرجِلَة،وشعرها شعر مسترجَل، لا يعبر عن طبيعتها وخصوصيتها وحقيقة مشاعرها وإهتماماتها كأُنثى ، ولا يعالج قضاياها وقضايا بنات جنسها ، أو يتناول المواضيع والأغراض التي هي أقرب ما تكون إلى أنوثتها ”
وهو الأمر الذي أنحدرت إليه رويداً رويداً ، و بدون شعور أو وعي بعض الأخوات من الشواعر ، وكاد أن يصبح ظاهرة مُلفِتَة ، أحببت لفت أنظارهن إليها ، والتنبيه لها ، لما قد يكون لها من عواقب ، تؤدي إلى ضياع هوية نتاجهن كنتاج أدبي نسائي ، و يجعل بينه وبين أنوثتهن وواقعهن هوة سحيقة قد لا تردم ، إذ يجب أن يظل لنتاجهن ما يميزه عن نتاج الرجل ، ويُفَرِّق بينهما ، ليحافظن بذلك على ما وصلن إليه في هذا العصر من نجاح ، وما يكون قد حققنه من مكاسب ، بفضل الله ، ثم بفضل هذا التقدم التقني الذي قرب المسافات واختصر الوقت والمال والجهد ، والذي أتاح لنا ولهن روعة هذا التلاقي والتواصل الحضاري ، وصار به العالم كله أشبه ما يكون بالقرية الصغيرة الواحدة.
ولعلهن يعلمن أن هناك من أخواتهن الشواعر في المجتمعات المحافظة بعالمنا العربي من لا يستطعن نشر نتاجهن بأسمائهن الحقيقية أو حتى المستعارة بأي وسيلة كانت ألكترونية أو مطبوعة لحجر أهاليهن عليهن القيام بذلك ، ويُحجَرُ عليهن حتى مجرد إنشاء صفحة يوميات على الفيس بوك أو أي مواقع تواصل أُخرى ، مما يجعلهن يُصَبنَ بالإحباط وبالتالي العزوف عن الكتابة وتركها بشكل نهائي ، وفي المجتمعات المنفتحة قليلاً ، التي تعطي المرأة مساحة من الحرية والثقة ، وتسمح لها تحت مجهر الرقابة بكل ما سبق ؛ تظل المرأة الشاعرة تعاني من قصور النظرة إليها وسوء فهم بعض ما تكتب وتنشر ، وخصوصاً إن عَبَّرَت في شعرها عن ما يختلج في صدرها من مشاعر ، فترى البعض يعيبون عليها الإفصاح والبوح عن مثل هذه المشاعر ،لأن ذلك من وجهة نظرهم القاصرة لا يجوز لها أن تتطرق له بحجة أنها أُنثى وأن ذلك قد يُسيئ إليها ، ويجوز ذلك لمعشر الشعراء من الرجال فقط!!
والصعوبات والتحديات التي تقف أمام نجاح المرأة المبدعة في أي مجال عموماً بعالمنا العربي كثيرة ، فلكم من شاعرة مجيدة مطبوعة ، ومن روائية أو قاصَّة متمكنة ،أو كاتبة ذات بيان ، مطمورات في تراب النسيان والإهمال ، أومغمورات تحت ماء المنع والعجز ، أنتهى مشوارهن قبل أن يبدأ ، وأضطررن للعيش على هامش الحياة..بعيداً عن الأضواء ، و تركن هذه الإهتمامات ، لإنه لم تتح لهن الفرصة كي يُحققن ذواتهن ، وأن يشعرن بنشوة النجاح والتقدير ، في مجتمعات لا ترضى أن تحترم المرأة ، وأن تنظر إليها كإنسان…لا كجسد..!!