مع تقدمنا في العمر ونضج إدراكنا نعرف يقينا أن الحياة أحيانًا يمكن أن تصبح صعبة ، ليس فقط بسبب الأحداث الخارجة عن سيطرتنا كالحروب ، الكوارث الطبيعية ، الموت ، والأمراض التي تصيب أعزاءنا وتطرحهم في الفراش .. بل أيضا بسبب ما نشعر به من مشاعر سلبية كالضيق والإحباط عند الفشل ، خسارة الوظيفة أو الأصدقاء ، وكذلك عندما يتوجب علينا المخاطرة أو اتخاذ قرار مصيري ، وملاحقة الكمال في كل ما نفعله ..

= = =

لماذا يتفاقم الشعور بالضيق والمشاعر السلبية الأخرى ؟

من بين العديد من النظريات التي قدمها علم النفس لتفسير الأسباب ما يقوله رائد علم النفس المعرفي ومؤسس العلاج السلوكي العقلاني العاطفي الدكتور ألبرت أليس ، وهو أن معظم ضيقنا وقلقنا ينشأ من طريقة تفسيرنا للأحداث من حولنا ، ذلك لأن البشر يعبرون عن مشاعرهم عن طريق اللغة بالجمل والكلمات التي بدورها تتحول إلى أفكار تُشكل عدسة رؤيتنا للعالم من حولنا ..

هذه الأفكار قد تكون عقلانية ولكنها أيضا قد تكون غير عقلانية تؤدي إلى انفعالات شديدة كالغضب ، التوتر والقلق التي تتراكم لتتحول إلى هلع ، إحباط ، وحتى استسلام وقنوط ..

= = =

ما هو مصدر هذه الأفكار الغير عقلانية ؟

إن طبيعة الإنسان البيولوجية تجعله يمتلك القدرة على أن يكون غير عقلاني وذلك بسبب ميوله إلى الكمال والعظمة ، بالإضافة إلى أن المجتمع والثقافة اللذان يُعلمانه أنه لكي يكون ناجح عليه أن يكون مقبول من الناس ، ذكي وأحيانا ثري وأنه يجب أن يحقق كل ما يرغب فيه .. ومن ثم فإن هذه المتطلبات تُرسخ بشكل متكرر عن طريق الإعلانات و المدرسة التي تضع معايير محددة للإنسان بالإضافة للأفكار التي ينشأ عليها خلال مراحل الطفولة ..

= = =

خطورة الأفكار الغير عقلانية :

إن هذه الأفكار لا تصبح خطيرة على الإنسان إلا عندما يكررها ويحولها من أمنيات إلى مطالب وواجبات قاسية على نفسه .. فتتحول الفكرة من "أتمنى أن أصبح ناجحا " إلى " يجب أن أصبح ناجح " ، والعديد من المتطلبات الأخرى التي تتراكم لتصبح هي المنظور الوحيد للحياة ..

  • إن أغلب هذه الأفكار الغير منطقية أدرجها الدكتور ألبرت أليس في ثلاث فئات وهي :

1 - يجب أن يكون أدائي ممتاز ، وأن أفوز برضا وإعجاب الآخرين وإلا أنا شخص عاجز وفاشل ..

2 - يجب أن يعاملني الناس الذين ساعدتهم وكنت لطيفا معهم بشكل جيد وبعدل وإلا فهم سيئون ويستحقون العقاب ..

3 - يجب أن تكون الظروف التي أعيشها جيدة ومريحة وإلا فإن الحياة فظيعة والعالم مكان سيء لا أطيق احتماله والعيش فيه ..

نظرية العلاج السلوكي العقلاني العاطفي :

غالبا ما يتم شرح أساسها بالرموز ح ، أ ، ن .. حيث أن ( ح ) تشير إلى الحدث ، ( أ ) الأفكار الغير عقلانية عن هذا الحدث ، ( ن ) النتيجة ..

وكمثال لنفترض أنه وقع حدث ( ح ) وهو أنه تم طردك من وظيفة ، هذا الحدث ينشط أفكار غير عقلانية ( أ ) من مثيل " هذا لا يمكن أن يحدث لي ، أنني أحتاج هذه الوظيفة ، لقد فقدتها وهذا يعني أنني فاشل وهذا أمر فظيع لا أحتمله " ، فالنتيجة العاطفية ( ن ) تكون ضيق وغضب وفقدان تقدير الذات الذي يتراكم ليصبح اكتئاب ينشأ عنه اجترار سوداوي ، سلوك سلبي ونتائج انفعالية سيئة أخرى ..

= = =

كيف يمكن إيقاف التأثير السلبي للأفكار الغير عقلانية ؟

 تقترح النظرية انه يُمكن إيقاف تأثير هذه الأفكار الغير عقلانية بالممارسة وبذل الجهد حيث يمكن تغيير الانفعالات السلبية الناتجة والمحافظة على سلامة الصحة النفسية ببساطة إذا غيرنا ما نقوله لأنفسنا والعمل المستمر على مهاجمة المنطق الخاطيء في أفكارنا ومتطلباتنا ..

حيث أن التفنيد المستمر والشك في منطقية هذه الأفكار الغير عقلانية يؤدي إلى تغييرها لتصبح أفكار منطقية وبالتالي تغيير استجابتنا للأحداث من حولنا .. حيث ينقسم التفنيد إلى ثلاث فئات أيضا : تفنيد واقعي ، تفنيد منطقي وأخيرا تفنيد عملي ..

فلو عدنا لتفنيد الأفكار الغير عقلانية في المثال فإنه يكون كالتالي :-

التفنيد الواقعي

~ أين الدليل على أن هذا لا يمكن أن يحدث لي ؟

لا يوجد دليل إلا في الخيال ولو أن هناك قانون يمنع هذا الشيء لما حدث لي ، وهذا شيء يمكن أن يحدث لكل الناس ..

التفنيد المنطقي

~ ما الذي يجعلني أعتقد أن خسارتي لهذه الوظيفة هي نهاية العالم ؟

بالتأكيد أن الذي حدث ليس نهاية العالم ، ولكنه حدث سيء لإنسان يمتلك الكثير من العيوب والمميزات أيضا ، وبالتالي لا يمكن أن أحكم على نفسي بالفشل ..

التفنيد العملي

~ ما الذي سيحدث لو واصلت التفكير بأن الذي حدث أمر فظيع لا يمكن إحتماله ؟

سأجعل من نفسي إنسان بائس ومحبط وسأتوقف عن البحث عن وظيفة أخرى ..

~ ~ ~

إن هذا النوع من التفنيد ينتج عنه تخفيف المشاعر السلبية وعدم الإنغماس فيها أكثر وبالتالي النهوض بسرعة أكبر و اتخاذ خطوات عملية واكتساب رؤية جديدة للحدث ، فمن زاوية أخرى فإن خسارة الوظيفة يعني توفر وقت لتعلم مهارات جديدة والبدء في البحث عن وظيفة أفضل ، وهكذا حسب الحدث الذي وقع ..

= = =

أهم هدف لتقنية العلاج السلوكي العقلاني العاطفي :

هكذا نستنتج أن أهم هدف لهذه التقنية هو جعل الإنسان يكتسب نظرة واقعية وعقلانية لنفسه أولا ومن ثم للعالم من حوله .. فمراجعة الحوار الداخلي والتفنيد المستمر للأفكار الغير عقلانية يؤدي إلى صحة نفسية جيدة مع مرور الوقت ، ويجعل الإنسان يكتسب مرونة عقلية مع الأحداث وبالتالي تجعله يتبنى مواقف بناءة وفلسفة جديدة للحياة ..

= = =

في الختام :

إن الشعور بالحزن ، خيبة الأمل ، وحتى الضيق يعتبر من المشاعر الطبيعية تماما ولكن الاستسلام لهذه المشاعر وتغذيتها بالمنطق الخاطيء هو الذي يقود لمشاعر مدمرة أخرى كالإحباط وكره الذات التي تجعل الإنسان تعيس وبالتالي يتوقف عن الحياة وينطوي على نفسه ويتجه للسلوكيات المُدمرة ..

ولكل نظرية بالتأكيد عيوبها حيث يكمن العيب هنا في أنه لا يوجد معيار عند استهداف الأفكار ، ولكن من مميزاتها بالتأكيد هو حث الإنسان على المحاولة مهما حدث .. لأنه حتى عند حدوث أسوء الأمور يمكن للإنسان أن يحيا حياة مثمرة و طيبة ، حيث أنه كما هو مولود بميول هدامة فكذلك هو مولود بميول بنّاءة قادر على صقلها والبدء من جديد ، وبإمكانه مهما حدث أن يتذوق مباهج الحياة ولو بشكل محدود ..

~ ~ ~

لمعرفة المزيد عن هذا العلاج والإستفادة أقترح قراءة كتب الدكتور ألبرت أليس التي يوجد منها ما هو موجه لغير المتخصصين ، وكذلك مشاهدة الفيديوات التالية لأخذ نبذة سريعة عنها :-

+

محادثة رائعة من Ted ..