فكرة الإله فكرة تُداعب عقل الإنسان منذ الأزل، وهي في الحقيقة من الأشياء التي تُعتَبر خارِج حدود فهم الإنسان، والتفكير فيها مُخيف ومُثير للحماس بنفس الوقت. الأعمال السينيمائية التي تتناول هكذا مواضيع قليلة جداً مُقارنة بالكتب التي تحكي عنها، وقلّما نجد أعمالاً عظيمة تُعجِب فئةً كثيرةً من الناس تجمع بين الترفيه والقصّة العبقريّة والإخراج الاحترافي والموسيقى الساحرة بالإضافة للفكرة الفلسفيّة التي يُريد إيصالها، وهذا بالضبط ما فعله فيلم الخيال العلمي Interstellar.

رغم ضيق الوقت بالنسبة لي بيدَ أنّي شاهدتُ الفيلم أكثَر من 3 مرّات، وكل مرّة أشاهده فيها تكون كأنّها المرّة الأولى. فيلم Interstellar لمن لا يعرفه، هو فيلم من إنتاجات 2014 من إخراج العبقري البريطاني كريستوفر نولان وبطولة ماثيو ماكونهي، يحكي الفيلم عن رائد الفضاء كوبر الذي يُسافر عبر المجرّة من خلال ثقبٍ دوديّ للبحث عن كوكب صالح للحياة بعد دمار كوكب الأرض.

الآن حديثي هنا سيحوي حرقاً جُزئيّاً لابَدّ منه، لذلك إذا لم تشاهد الفيلم تعرف ماذا عليك أن تفعل، كما أنّ كلامي موجّه لمن شاهَد الفيلم واستمتع به وفَهِم سيرَ الأحداث فيه ولم يكتفِ فقط بالمشاهدة.

هناك ثلاثُ أبعادٍ معروفة على الأرض (الطول والعرض والارتفاع) بالإضافة للبعد الرابع المحسوس وهو الزمان. في المجرّة الأبعاد موجودة لكنّها تتفاعل بشكل مختلف مع الكائن الموجود في الفضاء. يَصِل كوبر في النهاية خلال رحلته الفضائية إلى مكانٍ يكون البُعد الرابع فيه ملموساً، حيث يظهر الوقت باعتباره بعداً مكانياً.

في ذلك المكان، حيث يكون كوبر خارج تأثير الزمان، تظهر بوابات فيها لمحات من طفولة ابنته ميرفي في غرفة نومها على الأرض في أوقات مختلفة. هذه المشاهد في الحقيقة تمتّد من طفولة ابنته حتّى بلوغها، ويستطيع كوبر الانتقال من مرحلة لأخرى فقط عبر الانتقال لنافذةٍ أخرى. هناك يرى شريط الزمان بالكامل، ويستطيع التحكّم بالماضي وإرسال رسائل لابنته، ولكن لا يستطيع الاتصال بالكامل معها وفقط من خلال الجاذبية، فهي في عالم ثُلاثي الأبعاد أما هو في عالم رباعي الأبعاد.

هذا المَشهد جَعلني أُقكّر مليّاً في الكون وطبيعية الإله الذي لا تسير عليه قوانين الأرض، فهل هو موجود فوق شريط الزمان ليرى كُلّ شيء؟! خاصّة وأنّ الفيزياء النظرية تُخبرنا اليوم عن وجود 9 أبعادٍ لكوننا. وجوهر الفكرة هي أن الكائنات في البُعد التاسع تستطيع رؤية كل المخلوقات في الأبعاد الأخرى، ولكن كائنات البعد الثامن لا تستطيع رؤية البعد التاسع، وهكذا ...

قد لا يُشكّل السؤال للوهلة الأولى فارقاً، هل الإله يخضع لقوانين الزمان ؟ أم أنّه مُتعالي عليها لا تنطبق عليه تلك القوانين ؟

إذا كان الإله موجوداً داخل نطاق الزمن، فهذا يعني أن قوانين الكون تنطبق عليه، وأن هناك قوانين حتّى هو لا يستطيع تخطّيها. بل ويمكننا القول بأنه سيتغيّر مع مرور الزمن، وأن له بداية ونهاية.

إحدى الأمور التي أستند عليها في هذا القول هو إمكانية تغيير القدر، فلو أنّا آمنا بأن القدر مكتوب مُنذ بدء الخلق، فلماذا موجود في الإسلام مثلاً –في بعض الأقوال- أن الدعاء يرد القدر ؟! النقطة هنا أن الإله إذاً يُغيّر رأيه ويتّخذ القرارات، وهذه العمليّة تتطلب وقتاً. فكيف يُمكن تغيير القدر إذا لم يكن داخل الزمن ؟!!

الخيار الثاني هو تعاليه عن الزمان والوقت، والفكرة هذه كانت موجودة في بالي، ولكن كان من المستحيل بالنسبة لي تَخيّل كيف تحدث، وهنا جاء الفيلم وأعطاني نظرة جميلة ومفهومة عنها، ما أقصده هو المكان الذي كان فيه كوبر داخل الثقب الدودي ليرى فيه الماضي والحاضر والمستقبل، وهذه هي الفكرة الأكثر معقولية ومنطقية.

هناك فكرة أخرى يطرحها الفيلم في نفس المشهد، حيث يقول كوبر مخاطباً طاقم الفضاء: "هم يريدوننا فعل ذلك". من كان يقصد بـ "هم" ؟!

عندما تشاهد عدّة أفلام خيال علمي من هذا القبيل، ستصل لنتيجة قد لا تجرؤ حتى بالتفكير فيها، شيء تحاول السينما طرحه بطريقة غير مباشرة وهو أن الإله ما هو إلّا إنسان المستقبل، وأن الإنسان إذا استطاع فقط التلاعُب بالزمن فهذا كفيل بجعله بمرتبة الآلهة.

في النهاية، اختلفنا أو اتفقنا، فحتّى الآن لا يمكن إثبات وجود الله دينياً أو إنكاره علميّاً، فهو خارج كل شيء و"ليس كمثله شيء"، وعقولنا غير مُبرمَجة على استيعاب كينونته. ففي الفيزياء النظرية أنت حتى لا يُمكنك إدراك الكائنات في البُعد الرابع، فما بالك بإدراك خالق هذه الكائنات!

في الحقيقة هذا الفيلم يستفزّ عقلك ويستحثّه على التفكير وإعادة النظر في الكون، هذا الفيلم أحد الأفلام الخالدة التي لن تموت بمرور الوقت.