يعد الارتباط بين الطعام والشراب والسينما ارتباطاً وثيقاً واضحاً، تظهر ملامحه بقوة فى العديد من الأفلام السينمائية، وحاول الكثير من المخرجين وصناع الأفلام تصوير هذا الإرتباط فى أعمالهم.. حتي أن كثير من المشاهدين فى السينما لا تحلو لهم المشاهدة دون (قزقزة) أو (قرمشة) أو حتي احتساء رشفات من الكولا وغيرها من المشروبات التى تزيد متعة المشاهدة.

وقد يبدو الحديث عن الطعام والسينما كالحديث عن أمور حسية بالمقام الأول، إلا أن الحقيقة التى ظهرت لي بالبحث أن استعراض هذه المشاعر الحسية بالمقام الأول، والتعرض لها فى أعمال سينمائية، استطاع خلق حالة من الرومانسية وارتباط المشاهد بالسينما والأفلام، وهذا ما نلاحظه فى أعمال الكثير من المخرجين وعلى رأسهم محمد خان على سبيل المثال.

واهتمام محمد خان المتوفي قريباً بالطعام والشراب يتعدي كونه اهتماما بالمشاعر الحسية لأبطال أفلامه، لكننا نشعر فى أفلام خان التى يحتل الطعام وطرق اعداده وتناوله حيزاً كبيرا، نشعر أن الطعام جزء لا يتجزأ من المشاعر الداخلية لأبطال الأفلام، ووسيلة فعالة للمخرج لإيصال رسائله المستترة عبر أفلامه.

فى فيلمه (خرج ولم يعد) الذى تم تقديمه عام 1984 ومن بطولة يحيي الفخراني وليلي علوي و فريد شوقي، يحكي الفيلم عن انتقال موظف صغير بالأرشيف فى أحد المصالح الحكومية من المدينة الضيقة الخانقة الى رحاب القرية الريفية الجميلة التى لازال الخير يملؤها…

كان الفيلم واحدة من سلسلة الأفلام الداعية للهجرة للداخل قبل الهجرة للخارج، ولأكتشاف العمق المصري الذى قد يكون أجمل من العاصمة الممتلئة بأهلها ومصانعها وسياراتها ودخانها وعوادمها القاتلة.

استعمل محمد خان الطعام بكثافة مدهشة.. فكانت وجبة الملوخية والأرانب فى منزل خطيبته والتى فوجىء بعد وصوله أنها تحولت لوجبة (عدس) أكبر دلالة على فشل علاقة يحيي الفخراني بخطيبته واكتشافه لزيف علاقته بها بعدما كان يتوقع أن تكون علاقة ناجحة.

أما عن وجبات الطعام التى تم تقديمها له فى الريف فحدث ولا حرج.. بداية من البيض المقلي بالسمن وهو معامل مشترك أكبر فى كل مشاهد تناول الطعام فى أفلام محمد خان، وحتي مشاهد البط والأوز والطواجن والمحاشى، كلها كانت عوامل غزل سينمائية استعملها محمد خان لوصف جمال الحياة فى القرية المصرية البسيطة التى لم يطلها الغش فى الطعام والشراب بعد.

تكررت نفس التيمة فى فيلم (قبل زحمة الصيف) وهو بالمناسبة أخر أعمال محمد خان السينمائية ومن بطولة هنا شيحه و ماجد الكدواني و لانا مشتاق و أحمد داوود ويحكي عن العلاقات الإنسانية المتشابكة والمترابطة والتى تنشأ بين مجموعة من رواد أحد القري السياحية فى الساحل الشمالى، من خلال قصة سيدة مطلقة حديثاً ترتبط بطبيب يسعي للهرب من المواجهة مع الناس والصحافة على خلفية قضية فساد كبري فى المستشفى الذى يديره.

احتل الطعام وطهيه وتناوله مساحة كبيرة من مشاهد الفيلم، بداية من مشاهد تناول ماجد الكدواني لإفطاره المكون من البيض المقلي، وهو الطعام المفضل لمحمد خان كما ذكرنا، ونهاية بالمأدبة الفخمة التى يعدها ماجد الكدواني من كل المأكولات البحرية تقريبا… المأدبة التى يحدث خلال شراء مكوناتها شجاراً كبيراً، ويحدث أثناء تناولها واحد من أقوي وأكبر مشاهد الفيلم وهو Master Scene يستحق الوقوف عنده عندما تنفجر زوجة ماجد الكدواني وتواجهه بكل عيوبه ومشاكله دفعة واحدة.

شاهدت منذ فترة طويلة نسبيا فيلم (الماء والخضرة والوجه الحسن) من بطولة باسم سمرة وليلي علوي و منة شلبي وينتمي الفيلم لفئة الأفلام التى تستعمل الطعام لإبراز مشاعر أبطالها، حتي أن هذا الإسلوب كان مكثفاً أكثر من أفلام (خان) بمراحل.

يحكي الفيلم عن عائلة تعيش على الطبخ فى الأفراح والمأتم فى القري الريفية، ومع وفاة والدهم ومعلمهم الأكبر، يترك وصية بضرورة ذبح أضحية ضخمة وتوزيعها على الفقراء، ثم طبخ (الكتف) بطريقة معينة وأن يتناوله أبناؤه مع أحباؤهم!

طبخ وتناول الطعام كان المدخل لكل التحولات الهامة والأساسية فى السيناريو، بداية من كشف أسرار العلاقات المتشابكة بين أبطال الفيلم، مرورا بالأزمة الحقيقية للفيلم والعقدة Tide التى تجمع خيوط السيناريو بعضها ببعض.. الطعام فى الفيلم كان المحرك الرئيسي لكل الدوافع لدي كل الأبطال، حتي بمفهومه الأوسع كالرزق أو (أكل العيش) بمعني أخر.

العلاقة بين الطعام والسينما علاقة وثيقة وممتده لن يكون أولها أو أخرها الأفلام التي تناولناها، لكننا نحاول تسليط الضوء على ارتباط لا تلاحظه سوي الأعين الخبيرة، وعلاقة مستمرة ولن تنقطع طالما كانت هناك كاميرا تدور… وموقد يشتعل.

هل لاحظت هذه العلاقة من قبل؟ وهل يُكمل تناول الطعام أحيانا متعة مشاهدة الفيلم؟