فن الإقناع بالعاطفة

- البرمجة والتأثير في التفكير:

هناك مثل شعبي يقول: "آخذ الشور من رأس الثور"، وتعبر عن خطورة التأثر السلبي، وأخذ المشورة من غير أهلها.

عندما كنت طالبًا جامعيًا، والدنيا لا تكاد تسعني لفرط سعادتي بتلك المرحلة صدمني أحدهم بالقول:

هل تعتقد حقًا أن التحصيل الجامعي سيجعل منك إنسانًا ناجحًا؟

فسرد لي أن أغنى أغنياء العالم ليس لديهم شهادات جامعية، بيل غيتس مؤسس مايكروسفت، ستيف جوبز مؤسس أبل، حتى روبرت كيوساكي، قلل من شأن ارتياد المدارس في كتابه "الأب الغني والأب الفقير"، الذي تجاوزت مبيعاته 60 مليون نسخة، قارن بين أبيه الأستاذ الجامعي الفقير، ووالد صديقه الذي كان غنيًّا مع أنه غير متعلم.

كاد كلامه للوهلة الأولى أن يغسل دماغي في تلك المرحلة العمرية المبكرة، ويسفِّه في نظري أهمية أن أقضي أولى سنوات عمري وشبابي في التعليم الجامعي!

 كي لا نقع ضحية تأثير خطير لأفكار من هذا النوع تكون منطقية في ظاهرها فقط، يفترض بنا مراقبة وتدقيق وتصفية كل ما ينفذ إلى وعينا من خلال قنوات ثلاث: ما نسمع ونقرأ ونرى؛ لأنه ما سيحدد مصائرنا، لتأثرنا التلقائي به، وإن كان على نسب متفاوتة رضينا أم أبينا.

- الاستدلال بالمسلمات:

الانطلاق من الخلفية الثقافية للشخص موضع الإقناع، والاستشهاد والاستدلال بما لا يقبل الشك، ولديه مصداقية عالية لدى المستمع، فالمسلم مثلًا لا يتردد في الاقتناع بكل ما يتوافق مع القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، ثم اجتهادات علماء المسلمين. لكن الغريب في الثقافة الجمعية الاستشهاد بجميع الأمثال الشعبية بغثها وسمينها كما لو كانت مسلمات، نستخدمها للاستئناس بها إذا كانت منطقية، ولكن بعضها مثل "شاوروهن وخالفوهن" "إذا صادفت أعمى، فلا تتردد في ضربه، لست أكرم من ربه"، فيها من الطرافة ما يتوافق مع هوى كثير من الناس، لكنها أقوال جائرة، ولا صلة لها بالمنطق.

- حُسن المطلع:

الندية: من أساليب الإقناع حسن المطلع، أن تبدأ بما لا يمكن للمستمع أن ينكره، كلام تلقيه على سمعه يطربه ويوافقك فيه، من مثل أن تثني عليه بما فيه، وأن تبدأ بذكر إيجابيات وجهة نظره ومن ثم نقاط الالتقاء بينكما، فمن طبع الإنسان أنه يحتاج إلى من يواسيه أحيانًا في وجهات نظره التي قد تكون خاطئة، ليتقبل بعد ذلك مناقشتها وتعديلها، ولكن قبل ذلك أن يتهيأ نفسيًا، ومن الطبيعة البشرية رد الجميل، ومقابلة اللطف باللطف، هذا النوع من الموافقة التمهيدية منك بمنزلة برمجة له على أن يستمع باهتمام إلى وجهة نظرك وهذا الاستعداد الفطري ما سيجعله منفتحًا على محاولة الاقتناع بكلامك، أما أن تصدمه في بداية عرض فكرته أو مشاعره بالرفض والتخطيء والمعارضة، فإن هذا سيوقظ فيه الدوافع العدوانية وينمي لديه الاستعدادات الدفاعية، مما سيجعله أكثر تعنتًا وتشبثًا بموقفه الرافض، وسيمتنع عن التمعن في كلامك ومحاولة الاقتناع، فالاستعداد النفسي للاقتناع أمر مهم؛ بما يجعله يسترخي ويتخفف من حدة الموقف العدائي والدفاعي الذي يتخذه، بهذا تمهد لنفسك وتجعل من نفسه أطوع وأميل للاستجابة إلى منطقك الذي وافقك عليه في أوله.

الأستاذية: (لا لا لا، أخالفك الرأي، لا أتفق معك، كلام غير صحيح، وغير المنطق، أعارضك) مثل هذه المفردات والعبارات تنمي لديه الاستعدادت الغريزية الدفاعية ضد التقبل والاقتناع، عندما تخاطبه بصفتك أستاذًا خبيرًا، لن يتقبل منك أفكارك لنفوره من طباعك المتعالية في المناقشة، مع علمه اليقيني أحيانًا بصحتها؛ لأن كبرياءه يدعوه إلى التشبث برأيه، فهذا النوع لا يعنيه التمييز بين الخطأ والصواب، بل همه الانتصار لوجهة نظره في النقاش حتى لو اكتشف في أثناء الحوار أنه على خطأ.

- اللطف لا العنف في الإقناع:

أُثر عنه ﷺ قوله: "إِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونُ في شيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ" رواه مسلم، إذ تجد نفسك تطاوعك في الانقياد واتباع الأشخاص الذين يعجبونك، وتنفر وتعرض عن أشخاص لا يستهوونك ولا يعجبك كلامهم وإن تكلموا بكلام الله تعالى.

كما جاء في القرآن الكريم: "جادلهم بالتي هي أحسن" [النحل:125]

وحين أرسل الله تعالى سيدنا موسى وأخاه هارون عليهما السلام إلى فرعون ليحاججاه أوصاهما: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا﴾ [طه:44]

- التكرار:

كلنا يعلم رقة الماء ولطفه، وبالرغم من ذلك تفاجئنا قدرته على الحفر في الصخر بفعل التكرار لا القسوة، ذات الأثر يُحدثه التكرار في الإقناع إذا كان برقة الماء وانسيابيته، بشرط اختيار اللحظة المناسبة، وبأساليب مختلفة وفي مواقف متعددة، وعلى فترات زمنية متباعدة، والرفض لا يكون دائمًا بسبب أن الشخص غير مقتنع بوجهة نظرك، بل أحيانًا يكون ردة فعل انفعالية أو تعبير عن استياء داخلي.

والنسيان من طبيعة الإنسان فإن عرضت أمرًا ورُفض، فالغالب أن ينسى الطرف الثاني الأسباب التي دعته إلى المعارضة أو على الأقل يتخفف منها، فضلًا عن اختلاف الحالة الشعورية، مما يجعله أدعى وأقرب إلى الموافقة ولا سيما عندما تكون وجهة نظرك محقة.

لكن التكرار سيف ذو حدين، فقد يُستخدم أحيانًا بطريقة مسيئة، من ذلك عندما نصادف في حياتنا أشخاصًا ملحاحين في طلباتهم بطريقة منفِّرة ومزعجة، تزيد الطرف الآخر إصرارًا على رفضه.

- شروط الاتباع بالإقناع لا الإخضاع:

إن أردت الوصول إلى أعلى مستويات الإقناع، فابدأ بالاقتناع أولًا؛ لتغدو أقدر على الإقناع، يعني أن تقتنع بالفكرة ليسهل عليك إقناع الآخرين، فلغة الجسد أصدق من اللسان، وإن لم يستشعر الحاضرون الصدق في نبرات صوتك ونظرات عينيك وتعابير وجهك لا يمكن أن يقتنعوا من مجرد كلام.

- أسلوب الإخضاع لا الإقناع: بعضهم يقول لا حاجة لي بالإقناع، يريحني أسلوب الإخضاع، مستغلًّا سلطته. في البيت مثلًا كلنا يعلم الحديث الشريف "أعينوا أبناءكم على برِّكم"؛ لأن مثل هذا الإخضاع سيولد الضغينة والكراهية، ويدفع الأبناء إلى العقوق ...إلخ، كما أن التلويح بعصا البر والعقوق كنوع من الابتزاز والإذلال، سيؤدي إلى نتائج عكسية لاحقًا.

بالمقابل لدينا أسلوب الاتباع بدافع الاحترام والثقة، عندما تزرع محبتك في قلوب من حولك، فيحرصون على رضاك وعدم مخالفتك بدافع الحب والاحترام، كما في مجتمعاتنا الشرقية، في حال الأبناء الذين رضعوا محبة الآباء، فتشكل لديهم مفهوم الولاء والطاعة العمياء؛ لذلك أقول: الطريق إلى عقل المرء قلبه، والعقول قلاع محصَّنة يسهل النفاذ إليها بالعاطفة وبالكلمة الطيبة.