ترنيمة وداع.. أوبراوية شُيعت بها جنازة قدرت أعداد الأرجل فيها بالملايين - جنازة الراحل جمال عبد الناصر -، التفاف غريب حول صاحبها في حياته وبعد مماته، وبعد خمسة عقود تحول التفاف الحب إلى سخرية لاذعة موجهة لنفس الشخص.

استخدم العديد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي صور عبد الناصر ساخرين منه، حيث استخدموا الصور عند وصف أمور وأشخاص تدل على الفشل المُتكرر، غالبيتهم لا تعرف تاريخ عبد الناصر، وبعضهم يعرفه، ولكن يجحد به ولا ينظر إليه بعين الإنصاف.

جمال عبد الناصر حُسَين.. ثاني رؤساء الجمهورية المصرية، بعد أن قام وزملائه - الضباط الأحرار - بثورة الثالث والعشرين من يوليو عام ١٩٥٢م مُعلنين سقوط النظام الملكي، وقيام النظام الجُمهوري.

وُلِد في الخامس عشر من يناير عام ١٩١٨م في حي باكوس بالإسكندرية، وتُوفي في الثامن والعشرين من ديسمبر عام ١٩٧٠م؛ بسبب نوبة قلبية ناتجة من عملية تسممه، وانتهت مسيرته بجنازة تاريخية شهدت جموع الشعب المصري.

تنقل في هذه الفترة بين الإسكندرية وأسيوط والقاهرة، إلى أن التحق بكلية الحقوق بجامعة فؤاد (جامعة القاهرة حاليًا)، ومن ثَم التحق بالكلية الحربية في مارس عام ١٩٣٧م؛ ليبدأ حينها تاريخه العسكري، وكان تاريخه من قبل حافلًا بمشاراكاته السياسية قبل التحاقه بالجامعة.

جاحد من قال لم يكن تاريخه حافلًا بالإنجازات!

فلا بُد وأن تكون قد عرفت من قبل أن جدك أو أحدًا تعرفه على الخاصة، أو قد سمعت بأن فلانًا الفلاني قد حصل على أرضٍ من أراضي الإصلاح الزراعي بعد أن كان يعمل مُزارعًا فيها أو في غيرها.

وما كان ذلك ليحدث إلا بعد إصدار قانون الإصلاح الزراعي،(٢) والذي كان بموجبه توزيع الأراضي الزراعية - التي كانت في أيد ذوي المال والأعيان فحسب - على الفلاحين، وبعد أن كان أحدهم يعمل مُزارعًا مأجورًا، أصبح صاحب طين يعمل فيه لحساب نفسه، لا سُلطة لأحد عليه.

قرر رئيس الجمهورية بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس.(٣)

كلمات جعلت المصريين يلتفون حول الرئيس المصري جمال عبد الناصر آنذاك، ويهتفون باسمه، ويُألفون له الأغاني، وجعلتهم يرون فيه زعيم الأُمة العربية بأسرها، ولكنها فتحت عليه النار من قبل ثلاث جهات، ليُقام الاحتلال الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦م، مما أدى إلى فقدان أرض سيناء، واسيلاء الكيان الصهيوني عليها.

من منا لم يسمع عن عزوف الصناعات المصرية؛ بسبب قلة موارد الطاقة وندرتها، وحالة الجمود الزراعي في مصر؛ بسبب عدم توفر مياه النيل طوال العام، فقرر بناء سد أُسوان الذي يُعرف بالسد العالي؛ محاولةً لتوليد الكهرباء للاستخدامات الصناعية، وحتى يتسنى للفلاحين من زراعة الأراضي أكثر من مرة في العام الواحد، وذلك لتوافر المياه في موسمي الصيف والشتاء.

مشروع قومي مثمر على الناحية الزراعية والصناعية، لكن ضرره كبير على الخواص الجيولوجية لمنطقة الدلتا، فإنه من المتوقع تغطية مياه البحر الأبيض المتوسط على منطقة الدلتا؛ بسبب انخفاض منسوب أراضي الدلتا، وعلى خصوبة الأرض الزراعية، فبعد بناء السد، قلما وصل الطمي لأراضي الدلتا وضفاف النيل.

صاحب القومية العربية، فقد ترأس الجمهورية العربية المتحدة المكونة من مصر وسوريا عام ١٩٥٨م، بعد إقناعه بذلك.

زعيم مصري وعربي، ذاع صيته في الوطن العربي بأسره على أنه موحد الأُمة العربية، قائد العرب نحو تكوين أيديولوجية مشتركة.

ولكن سرعان ما انحل الاتحاد أو كما سُمي حينها بالجمهورية العربية المُتحدة.

وإحقاقًا للحق طاحت أسطر الهزيمة بكتب تاريخ عبد الناصر.

فهزيمة أو كما تُعرف بنكسة الخامس من يونيو عام ١٩٦٧م كانت بمثابة وثمة سوء في تاريخ عبد الناصر، فما زالت في رقبته حتى بعد وفاته، وإسر هذه النكسة استقال من منصبه، فما كان للشعب إلا أن يُطالب بعودته.

العارف بالتاريخ السياسي وبخفايا مطبخ الأحداث وقتئذٍ، هو بالتأكيد يعلم أن يد عبد الناصر لم تكن خالية من الجرائم الإنسانية والاضطهادات، قد نُتهم بالانتماء أو بالتحيُز إلى تيار سياسي أو مذهب ديني أو نُتهم بعدم الإنصاف أو بكره عبد الناصر عند ذكرها، فلن نذكر مثلها، وسنذكر ما دونها.

يُذكر أن محمد فوزي تعرض للاضطهاد من قبل عبد الناصر،(٤) وقال عبد الناصر: "انتقموا من فوزي لا لشيء سوى لصداقته مع اللواء محمد نجيب."، الذي اعتبره عبد الناصر وأنصاره خصمًا لهم، اضطهده بسبب تأييده لأهداف الثورة، في نفس الوقت قام بالتاسهيل لغيره من الفنانين، مثل: أم كلثوم والأطرش، هنا لا ندافع عن الفن أو عن أحد أو عن شيء سوى الإنسانية.

وما من أحد لا يعرف أن عبد الناصر انتزع السُلطة من نجيب في نوفمبر عام ١٩٥٤م، وجعله تحت الإقامة الجبرية في منزله حتى تُوفي في منزله في عهد مبارك؛ وذلك لأن نجيب من أنصار تحقيق هدف الثورة في إقامة حياة ديمقراطية سليمة. فسعى لعودة الأحزاب ورجوع الجيش إلى ثكناته بعد أن غيّر النظام.

أمور حَريَّة بمحو تاريخ عبد الناصر، جرائم في حق الإنسانية، وما خفي كان أعظم.

تاريخ حافل بقرارات ترفع لها القُبعة، وأحداث أخرى حَريَّة أن تطيح بصاحبها، فقد لا تغفر - الجرائم الإنسانية والاضطهادية -، وهزائم في جميع الحروب التي خيضت فيه، ومشاريع قومية نافعة آنذاك، ولكن ضررها الآن قد يكون أكبر من نفعها.

فمِن هُنا ندرك أن عبد الناصر كان مُفتريًّا، ولكنه الآن مُجحد ببعض ما فعل ومُفترَيٌ عليه.

مصادر وهوامش:

(١) مقتبس من اسم كتاب عبد الناصر المُفترى عليه والمُفتري علينا للأديب الراحل أنيس منصور.

(٢) صدر قانون الإصلاح الزراعي في ٩ سبتمبر ١٩٥٢م، في عهد محمد نجيب، وطبقه جمال عبد الناصر. وينص القانون على تحديد الملكية الزراعية للأفراد، وأخذ الأرض من كبار الملاك وتوزيعها على صغار الفلاحين المعدمين. وحُددت ملكية الفرد أو الأسرة أول مرة ٢٠٠ فدان، ثم بعد عدة تعديلات أصبحت ٥٠ فدان للملاك القدامى.

(٣) أعلن جمال عبد الناصر قرار التأميم في ميدان المنشية بالإسكندرية في ٢٦ يوليو ١٩٥٦م. بعد أن سحبت الولايات المتحدة عرض تمويل السد العالي بطريقة مهينة لمصر، ثم تبعتها بريطانيا والبنك الدولي.

(٤) كتاب محمد فوزي.. الوثائق الخاصة للناقد السينمائي أشرف غريب.