في خطاب أرسله ويليام شيرمان (قائد العمليات خلال الحرب الأهلية الأمريكية) عام 1864 إلى القيادة العامة للجيش وصف فيه الأمريكيين من الجنوب قائلا: (نحن لم نعد نحارب جيش معتدي، ولكن الناس أنفسهم هم المعتدون، لذا لزاما علينا أن نُشعر هؤلاء الناس؛ كبيرهم وصغيرهم، فقيرهم وغنيهم بمدى قسوة هذه الحرب وشدتها تماما كما نفعل مع جيشهم).

بعد انتهاء الحرب الأهلية في أمريكا عام 1865، كان أمام الجمهوريين في الكونجرس الأمريكي سؤال مهم: كيف يمكن إعادة ضم دول الجنوب التي تمردت على الحكومة الإتحادية؟ وكيف يتم ضمانة حقوق السود في الجنوب؟ حدثت سجالات ونقاشات وصراعات كثيرة انتهت بأن من سُمي بالراديكاليين - من الحزب الجمهوري في الكونجرس - فرضوا رؤيتهم وأصدروا قانون أشبه بقوانين الحرب التي تطبق على الأعداء بعد الإنتصار عليهم، في عام 1867 قسموا العشر ولايات التي تمردت إلى خمس مناطق عسكرية وعينوا جنرال على رأس كل منطقة وأرسلوا آلاف الجنود لفرض القوانين.

كان هذا بداية عصر إعادة البناء (Reconstruction Era) .. في انتخابات الكوجرس والرئاسة عام 1868 كان وظيفة قادة المناطق إختيار الأشخاص المسموح لهم بالترشح في الإنتخابات، بل وإختيار من لهم حق التصويت! كانت النتيجة أن نجح بعض السود (ضمن الحزب الجمهوري) في الكونجرس الأمريكي وتولوا مناصب عامة في الولايات!! تلت ذلك أحداث عنف كثيرة وأعمال قتل واعتداء على السود، كان أعنفها عام 1873 فيما ُمي بمذبحة كولفاكس والتي كانت تعتبر أحد أكبر المذابح في التاريخ الأمريكي، وقد مات فيها ما يزيد على 100 من السود وثلاثة من البيض. تم اتهام ثلاثة فقط من أعضاء جماعة الكوكلاكس كلان وتم تحويل القضية إلى المحكمة العليا في قضية عرفت بإسم الولايات المتحدة ضد كروكشانك ...

كان ملخص الموقف هو دفاع من الجمهوريين عن حقوق السود (بالإضافة إلى مصالحهم السياسية)، ثم فرض هذه الحقوق والمصالح بالقوة العسكرية وبإستخدام الجيش في واحدة من أعرق الديمقراطيات في العالم! وصدام الكونجرس المنتخب مع الرئيس المنتخب حتى فرض رؤيته على الرئيس في الإصلاح .. وقد سُمي الجمهوريين بالراديكاليين لموقفهم هذا مع أنه كان في نظر المدافعين عن الحريات في ذلك الوقت هو الموقف الصحيح والأخلاقي!

على الجانب الآخر كان الجنوبيين في أمريكا وبمساندة الحزب الديمقراطي، يرون أن التدخل المركزي من الحكومة في واشنطن هو اعتداء على حرياتهم وحقوقهم الشخصية وأن الولايات يجب أن تأخذ مساحة أكبر من الحرية (وذلك حتى يكون لديهم مساحة أكبر من ممارسة إعتداءاتهم على السود ومنعهم من الترشح للإنتخابات أو التصويت)!!

كان حكم المحكمة في قضية الولايات المتحدة ضد كروكشانك (United States v. Cruikshank) حكم عجيب وهو من ضمن الأحكام المرجعية الأساسية في تاريخ القضاء الأمريكي كما انه عمليا أنهى عصر إعاداة البناء ...

كان ملخص الحكم أن التعديلات التي ضمن المساواة والحرية لكل المواطنين كان دفاعا عن حق المواطن أمام الدولة وليس أمام الأشخاص، بمعنى أن للدولة حدود في تطبيق سلطاتها، وأن الولايات هي التي لها الحق في الفصل في النزاعات بين الأفراد وليس للسلطات المركزية الحق في فرض الأمن أو القانون!!!

بعد هذا الحكم، تحول السود في جنوب أمريكا إلى مطاريد، لا يملكون مالا ولا فرص عمل ولا فرص تعليم ومعرضين للقتل في أي لحظة من عصابات البيض واستمروا على هذه الحال من الشقاء والعناء مائة عام آخرى حتى صدر قانون الحقوق المدنية في ستينيات القرن العشرين ...

بعيدا عن السود ومعاناتهم، يبدو سؤال الدكتور حامد ربيع أساسيا؛ الأولوية لأيا من القيم: العدل أم الحرية؟ لقد آثرت المحكمة حرية الناس ولكنها حرية اقتصرت على البيض، فهل هذا عدل؟ ولكن العدل طبق بالقوة بل إن الديمقراطية فُرضت فرضا وكان للعسكر الحق في اختيار من يكون المرشح ومن يحق له التصويت! ولكن المحكمة خشت أن يأتي الوقت الذي يتحول العسكر إلى أشرار ويستغلوا سلطاتهم في تطبيق مصالح آخرى لا تعني العدل في شيء!

هنا تتصاعد أسئلة شتى عن مدى فعالية الديمقراطية وما هي حدودها؟ وأسئلة آخرى عن التداخل بين المساحات المحلية وحق المجتمع في إدارة شئونه وبين صلاحيات الحكومة المركزية!

في حوار مع شاب أمريكي (عمره 29 عاما) أبيض من الجنوب صوت لترامب، تمت مقابلته بعد الإنتخابات مباشرة، قال وهو يضحك: (America was never a real democracy)!!

لكل الأمم تجاربها وأخطاءها ولا يوجد نظام وصل إلى ما وصل إليه فجأة ودون ممارسة تاريخية شكلت واقعه، المشكلة أننا لم نعط الفرصة منذ قرون لكي نمارس حقنا في التجربة، لذا معظم أخطائنا قاصرة على المقولات والنظريات، فهذه حيل واقع العجز الذي نعيشه,

ودمتم بخير