كان سقراط في نظر قراء فلسفته، الفيلسوف الأكثر شهرة في كل العصور و واحدا من أكثر العقول تعقيدا و غموضا على الاطلاق ، و كانت فترة إعدامه نقطة مظلمة في التاريخ الأثيني و الإنساني لكن تفكيره و تعاليمه بقيت على قيد الحياة و بقيت مضيئة لما يقرب من 2500 سنة . و لم ينجح أفلاطون و لا أرسطو أو نيتشه أو حتى العديد من المفكرين الكبار الآخرين عبر التاريخ في تقديم تحليل نهائي لأفكار سقراط أو طريقة تفكيره، وفي هذا المقال نحن لا نزعم القيام بذلك و لكن بدلا من ذلك سنقدم هنا فرصة لأولئك الذين يرغبون في قراءة مقدمة وجيزة عن حياة سقراط من أجل الإطلاع على أسلوب حياة و فكر هذا الرجل اللامع و الفيلسوف الشهير .
وُلد سقراط في أثينا ، عاصمة اليونان ، عام 470 قبل الميلاد و توفي في عام 399 قبل الميلاد ، جاء من عائلة فقيرة و متواضعة و كان والده نحاتًا و أمه قابلة فاتبع في البداية مهنة والده حيث كانت وراثة الحرف شائعة في ذلك الوقت ، لكنه استقال في النهاية و كرس حياته كلها للفلسفة.
لا توجد معلومات حول المصدر الذي تلقى منه سقراط تعليمه لكن بعض العلماء ظنوا أنه كان يدرّس نفسه بنفسه مستندا في تعلمه إلى ملاحظاته الخاصة حول العالم و الناس من حوله .
و معظم ما نعرفه عن سقراط يأتي من كتابات تلميذه أفلاطون الذي يخبرنا أن سقراط كان رجلا صادقا و كريما و مواطنا مخلصا لقوانين بلاده، كما أن أفلاطون يخبرنا أن سقراط لم يفشل أبدا في أداء واجباته الدينية و السياسية كما أنه كان يشارك في الحياة السياسية في مدينة أثينا القديمة والتي كان يحبها كثيرا .
سقراط يلقب أحيانًا بأنه أكثر الرجال حكمة في العالم القديم ، فبعد أن عمل في الفن وقتًا قصيرًا تحول بعدها إلى الفلسفة ، و ثبتت من فوره شهرته كمفكر على جانب كبير من الأصالة و الإبداع ، وقد ابتدع طريقة للتحقيق و التعليم هي عبارة عن سلسلة من الأسئلة تهدف إلى الحصول على تعبير واضح ومتماسك عن شيء يفترض أنه مفهوم ضمنًا من كل البشر.
وكان دائم السعي وراء الحقيقة و الاهتمام بجعل مشاكل الحياة المعقدة أسهل على الفهم ، و لتحقيق هذه الغاية كان مضطرًا إلى مناقشة الكثير من المعتقدات و التقاليد المسلم بها الأمر الذي أكسبه الكثير من العداوات .
سقراط الجندي !
الحقيقة التي لم تلاقي شهرة كبيرة حول سقراط هي أنه كان جنديًا أيضا ، حارب بشجاعة في ثلاث حملات من حرب بيلوبونيزيا حيث أظهر شجاعة و احتمالا بارزين للصعوبات التي واجهها أثناء المعركة و بعدها .
في الندوة ، وهو نص فلسفي كتبه أفلاطون، يشيد شاب يدعى السيبياديس بشجاعة سقراط و قدرته على تجاهل البرد و الخوف ، حيث يقول السيبيديس أن سقراط أنقذ حياته في المعركة و رفض أن يتم تكريمه على ذلك.
سقراط و الطغاط الثلاثون
بعد انتهاء الحرب البيلوبونيزية و تفكك الديمقراطية حكم الطغاط الثلاثون أثينا، و كان سقراط أحد أشد منتقديهم و غالبًا ما كان يدخل في نزاعات معهم ، وكان يفعل ذلك خاصة برفقة صديقه و طالبه السابق "كريتو أوف ألوبيس".
و تصدى الطغاط الثلاثون للأشخص الذين عارضوهم من خلال مصادرة الممتلكات و إدانة المواطنين المتمردين و الحكم عليهم بالموت ، وقد تصادم سقراط في كثير من الأحيان مع الطغاة الثلاثين و رفض قبول سلطتهم ، مما تسبب لاحقا في الحكم عليه بالإعدام .
إن سقراط واحد من أكثر الشخصيات غموضا في التاريخ و هو أكثرهم إثارة للإعجاب، لكن هذا الفيلسوف العظيم لم يترك وراءه ولو كلمة واحدة مكتوبة ، و كل ما نعرفه عن أسئلته و تعاليمه الفلسفية أتى إلينا من خلال عظماء آخرين من تلك الحقبة مثل أرسطو ، زينوفون ، و بالطبع أفلاطون ، وهم أكثر من تعتبر كتاباتهم حول سقراط أكثر مصداقية و دقّة من غيرهم.
ولقد صدم موت سقراط غير العادل المجتمع الأثيني خلال فترة ظهور أفلاطون الشاب كمفكر و فيلسوف ، و الذي حفزه موت سقراط على تسجيل أحداث حياة و تعاليم معلمه، ومن بين أعماله " الاعتذار " و هو كتاب يحوي رواية أفلاطون عن سقراط للدفاع عن قضيته حول الاتهامات التي وجهتها إليه السلطات الأثينية ضده . كل ما نعرفه تقريبًا عن فلسفة سقراط جاء من طالبه المخلص أفلاطون الذي كان أيضًا أحد أعظم الفلاسفة في التاريخ ، و وفقًا لأفلاطون فإن نقطة البداية و النهاية في التفكير السقراطي كانت هي شعاره :
" أنا أعرف أنني لا أعرف شيئًا " .
فلسفة سقراط
كان سقراط مفكرا عميقا و محبا للشك بإخلاص ، ركزت أفكاره و أسئلته بشكل رئيسي على المشاكل اليومية للحياة البشرية ، و هي إحدى الفروق الرئيسية التي يختلف بها التفكير السقراطي عن باقي الفلاسفة الذين سبقوا سقراط و الذين كان مجالهم الخاص هو الفلسفة الطبيعية ، من بينهم مفكرين مشهورين مثل زينو و فيثاغورس . وقد رفضت فلسفة سقراط تلك النظريات الخرافية التي من المفترض أنها تفسر العالم بحيث حاولت فلسفة سقراط العثور على تفسيرات عقلانية و رياضية للظواهر الطبيعية و سعت إلى الإجابة عن أسئلة محيرة حول الطبيعة باستخدام المنطق و العقل.
لطالما أحب سقراط الناس ، و أحب أن يكون على اتصال معهم ، و أن يستمع إليهم ، و أن يسمع عن مشاكلهم و طرق تفكيرهم . و غالبًا ما كانت تعاليمه و خطبه تدور حول قيمة الأخلاق و الشجاعة و اللطف و الولاء للقوانين العادلة إلى درجة أنه أشار إلى الآثار السلبية لأضداد هذه الفضائل .
و قام سقراط بتدريس فلسفاته للشباب خاصةً ذرية الأثرياء ، حيث حثهم على عدم المبالغة في تقدير قيمة الأشياء المادية و عدم الاهتمام بكسب الكثير الثروات و لكن بدلاً من ذلك يجب العيش بشكل أخلاقي و روحي . و كان يعتقد أن الناس يمكن أن يحلوا مشاكلهم و يكشفوا الحقيقة باستخدام المنطق كأداة خاصة بهم .
إن سقراط مشهور بأسلوبه التدريسي المسمى الأسلوب السقراطي ، فهو خلال مناقشاته يتظاهر بأنه جاهل تماما و غير مدرك للموضوع قيد المناقشة ، ولكن من خلال طرحه سؤالا بعد سؤال على شريكه في المناقشة فقد عمل سقراط على استخلاص المعلومات منه ، وفي النهاية و بعد أن يجيب منافسه على جميع الأسئلة يقوم سقراط باستحضار " الحقيقة " اعتمادا على أقوال منافسه .
تشير هذه الطريقة التي كان سقراط يستعملها إلى فكرة أن الحقيقة موجودة داخل العقل ، وكما تجلب القابلة طفلًا جديدًا إلى العالم ، فكذلك أخرج سقراط الحقيقة من مُناظريه.
و على الرغم من الإشادة الشعبية بسقراط و اعتباره معلما عظيما إلا أنه كان محاطا بأعداء متعصبين أيضًا ، وذلك ربما نتيجة لقدراته العظيمة في الإقناع بين الشعب و معارضته للسلطة التعسفية في عصره .. و لسوء الحظ أدت هذه المعارضة إلى وفاته . و أدت محاكمة سقراط الشهيرة ، و التي تعد واحدة من أتعس حالات إجهاض العدالة في التاريخ ، إلى فرض عقوبة الإعدام على " أبو الفلسفة الغربية ".
محاكمة سقراط
بعد أن اقتنع حاكم أثينا سنة 399 قبل الميلاد بقضية إدانة سقراط بإفساد الشباب و الإلحاد ، أمره بالمثول أمام اللجنة العليا للدفاع عن نفسه ، و واجه سقراط محكمة مكونة من 500 مواطن أثيني حيث يستدل من كثرة العدد أهمية تلك المحاكمة وقتئذ . و يعتقد الكثير من المؤرخين أن هذه الاتهامات كانت ملفقة حيث تم تحريف الأسئلة التي طرحها سقراط أثناء تدريسه وفقًا لطريقته السقراطية.
و تفاجأ الحضور باقتراح سقراط أحكاماً بديلة ، حيث اقترح مازحاً عقوبة تتكون من أكلٍ مجاني في البيراتانيون (كان هذا الشرف خاص برعاة المدينة و الفائزين بالألعاب الأولمبية) ، ثم يقوم بدفع 10 دراخم وهو ما كان يساوى خُمس ثروته و كان ذلك أيضاً دليلاً على فقره المدقع . ولكن أخيراً اقترح تلامذته أفلاطون و كريتون و كريتوبولوس و أبولودور على أن يدفع سقراط ثلاثة آلاف درخم بعد أن ضمنوه ، في حين أن مهاجمه اقترح عقوبة الموت .
نقل أفلاطون في كتاباته أن جاء التصويت في صالح عقوبة الموت بعدد 360 صوتاً مقابل 140 ، و خسر سقراط تعاطف المواطنين معه بسبب نبرته الساخرة وعدم طلبه العفو . ففرضت المحكمة العقوبة عليه بأن يشرب طوعا شراب سام مصنوع من الشوكران ، و على الرغم من أن سقراط كان يمكن أن ينقذ حياته بالهروب من السجن إلا أنه فضل أن يموت مثلما عاش ، بكرامة و شجاعة ، و ذلك تكريمًا للمعتقدات و القيم التي قضى حياته في تدريسها .
حقائق إضافية
حوارات أفلاطون هي الكتابات الأكثر اكتمالا التي نجت عبر العصور القديمة والتي تدور حول تعاليم سقراط المختلفة .
العديد من معتقدات سقراط سميت " متناقضة " لأنها تبدو في البداية و كأنها تتناقض مع الحس السليم ، و هكذا انتهى بها المطاف تحت مصطلح " مفارقة سقراط "
كان سقراط متزوجا من Xanthippe وهي امرأة أصغر منه سنا عُرفت بمزاجها الناري ، و كان لديهم ثلاثة أبناء - Lamprocles , Sophroniscus و Menexenus .
غالبًا ما وُصف سقراط بأنه غير جذاب أو حتى قبيح و أيضا قيل أنه شخص لم يهتم كثيرًا بمظهره و ملابسه ، و غالبية وقته كان يقضيه في التجول في مدينته أثينا .
اتهم سقراط بعدم احترام الآلهة ، و يعتبره بعض المؤرخين من أوائل الملحدين المعروفين في التاريخ .. ومع ذلك فقد تحدث سقراط عن شيئ أطلق عليه القوة الواحدة المتفوقة ، مما دفع البعض للاعتقاد بأنه كان موحدا لله تعالى .
لم يقبل سقراط يوما المال مقابل تعاليمه و خطبه ، و كان ضد ممارسة السفسطائيين (مذهب يضم العلماء و المفكرين في اليونان القديمة) الذين قدّموا مشورتهم و معرفتهم مقابل رسوم معينة .
عندما كان في السابعة عشرة من عمره ، قابل سقراط الفيلسوف أرشيلاوس ، حيث يعتقد الكثيرون أن هذا هو الرجل الذي زرع شغف الفلسفة في قلب سقراط.
توفي سقراط في سن 71 سنة.
في النهاية ..
في عام 2011 أعيد فتح قضية سقراط أمام المحكمة الفيدرالية بنيويورك ، و في هذه المحاكمة التاريخية - التي حضرها أكاديميون و أناس عاديون ، و محامون جنائيون ، و أشخاص حائزون على جائزة نوبل من جميع أنحاء العالم - تمت فيها تبرئة سقراط بعد 2500 عام من الحكم عليه بالإعدام . و بعد الاستماع إلى مجموعة من طلاب التاريخ الذين دافعوا عن سقراط ، اعتبر اثنان من القضاة الثلاثة أن الأدلة لم تكن كافية لإدانة هذا الفيلسوف العظيم !
إذا أتممت القراءة فضلا زر مدونتي ففيها المزيد من المقالات الممتعة والمفيدة كهذه:
التعليقات