لولا براعة الفراعنة في بناء الاهرامات وجعل حجارتها ضخمة للغاية لكانت مصر اليوم بدون اهرامات ولكانت اليوم عائدات السياحة قليلة بهذا البلد ..
فمن أطرف ما ورد في المصادر التاريخية الإسلامية محاولة بعض الحكام المسلمين هدم أهرامات مصر و"أبو الهول"، باعتبارها أصناما، وهذا يناقض تماما ما ذهب إليه بعض الفقهاء المعاصرين عندما كتبوا في بياناتهم الموجهة ضد تنظيم "داعش" أو "الطالبان" بعد هدمهما للآثار قائلين إن هذه الآثار العظيمة ظلت قائمة رغم أن الصحابة الأوائل والخلفاء الذين تعاقبوا على الحكم لم يمسوها بسوء، وهو أمر غير صحيح، ليس فقط بالنظر إلى ما ورد في كتب المؤرخين المسلمين من وصف لتخريب المعابد القديمة والأوثان، بل وما ذكرته كذلك من محاولة بعض الحكام والخلفاء هدم الأهرامات الفرعونية بمصر، محاولات باءت جميعها بالفشل الذريع، بسبب عظمة تلك البنايات وصلابتها وقوة صمودها في وجه الزمن.
يقول العلامة ابن خلدون في مقدمته ذاكرا محاولة الخليفة المأمون العباسي تخريب الهرم الأصغر: "وكذلك اتفق المأمون على هدم الأهرام التي بمصر، وجمع الفعلة لهدمها، فلم يحل بطائل، وشرعوا في نقبه فانتهوا إلى جو بين الحائط الظل وما بعده من الحيطان، وهنالك كان منتهى هدمهم. وهو إلى اليوم فيما يقال منفذ ظاهر، ويزعم الزاعمون أنه وجد ركازاً بين تلك الحيطان".
ومن بين الذين ذكرهم التاريخ ضمن لائحة من حاولوا تخريب الأهرام "بهاء الدين قراقوش" الذي عينه صلاح الدين نائباً عنه على مصر، وتقول بعض الروايات إن قراقوش هذا قد نجح في هدم العديد من الأهرامات الصغيرة التي كانت في متناوله، واستعمل حجارتها في بناء قلعة القاهرة.
يقول عبد اللطيف البغدادي في كتابه "الإفادة والاعتبار في الأمور والمشاهدات والحوادث المعاينة بأرض مصر"، واصفا هذه الأحداث:" "وفي (بوصير) منها شيء كثير (أي الأهرامات)، وبعضها كبار وبعضها صغار وبعضها طين ولبن وأكثرها حجر وبعضها مدرّج وأكثرها مخروط أملس، قد كان منها بالجيزة عدد كثير لكنها صغار فهدمت في زمن صلاح الدين يوسف بن أيوب، على يدي قراقوش، وهو الذي بنى السور من الحجارة محيطاً بالفسطاط والقاهرة وما بينهما وبالقلعة التي على المقطّم، وأخذ حجارة هذه الأهرام الصغار وبنى بها القناطر الموجودة اليوم بالجيزة".
بعد وفاة صلاح الدين حاول ابنه العزيز عثمان بن يوسف هدم الأهرامات، ولكنه رغم الإمكانيات التي وفرها وأعداد العمال الذين عبأهم لهذا العمل المشين، إلا أنه بعد ثمانية أشهر فشل في مهمته وأقلع عن الفكرة يائسا.
يقول المؤرخ البغدادي واصفا ذلك في كتابه "الإفادة والاعتبار": "وكان الملك العزيز عثمان بن يوسف لما استقل بعد أبيه، سوّل له جهلة أصحابه أن يهدم هذه الأهرام فبدأ بالصغير الأحمر وهو ثالثة الأثافي، فأخرج إليه الحلبية والنقابين والحجارين وجماعة من عظماء دولته وأمراء مملكته وأمرهم بهدمه ووكّلهم بخرابه فخيّموا عندها وحشروا عليها الرجال والصنَّاع ووفروا عليهم النفقات، وأقاموا نحو 8 أشهر بخيلهم ورجالهم يهدمون كل يوم بعد بذل الجهد واستفراغ الوسع الحجر والحجرين، فلما طال ثواؤهم ونفدت نفقاتهم وتضاعف نصبهم ووهنت عظامهم وخارت قواهم، كفّوا محسورين مذمومين لم ينالوا بغية ولا بلغوا غاية، بل كانت غايتهم أن شوّهوا الهرم وأبانوا عن عجز وفشل".
ومن الحكام الذين حاولوا كذلك هدم الأهرام محمد علي باشا حاكم مصر ما بين 1805 و1848، حيث أعطى أوامره إلى مهندس فرنسي يدعى لينان دي بلفون (Linant de Bellefonds) بهدم الهرم الأكبر، واستخدام أحجاره الضخمة لبناء قناطر جديدة. غير أن المهندس الفرنسي كان من الذكاء بحيث تحايل على الحاكم الغاشم بمساعدة من القنصل العام لفرنسا بمصر، واقترح عليه بدائل أخرى، وهكذا أنقذ الهرم الأكبر من التشويه.
وما أن توفي محمد علي باشا سنة 1848 حتى عاد ابنه الخديوي عباس حلمي الأول إلى وهْم والده بهدم الأهرامات، فنادى على مهندس فرنسي آخر اسمه "موجيل" وخاطبه قائلا: "لا أدري ما الفائدة من وجود تلك الجبال من الصخور المرصوصة فوق بعضها، فاذهب واهدمها واستخدم حجارتها في إتمام بناء القناطر"، حسب ما أكده المؤرخ شعيب عبد الفتاح. غير أن المهندس الفرنسي هذه المرة كان صريحا مع الخديوي حيث أخبره بأنه لن يقبل أبدا أن يرتبط اسمه بهدم مآثر عظيمة كالأهرامات.
المصدر:
البوابة الأمازيغية
ظاهرة تدمير الآثار وإحراق المكتبات في تاريخ المسلمين .. (الفصل 11)
التعليقات