كتب العقاد مقال: (الاستخدام رق القرن العشرين) عام 1907م , كان يبلغ من العمر الثامنة عشر تقريباً , كانت من أولى مقالاته الصحفية , نتاج لمعاناته التي كان يعانيها , إنه لم يطق الوظيفة، ويبدو أن الوظيفة لم تكن تطيقه, عين بشهادته الابتدائية في أسوان وفي أكثر من وظيفة، فلم يستقر بها، وعمل بالقاهرة في وظائف (ميري) حكومية، وأخذ يستقيل، ويقال منها الواحدة تلو الأخرى, لدرجة أنه لم يكن يمكث في الوظيفة الواحدة أسبوعاً.

يذكر في مقاله هذا قائلاً: “ومن السوابق التي أغتبط بها: أنني كنت فيما أرجح أول موظف مصري استقال من وظيفة حكومية بمحض اختياره، يوم كانت الاستقالة من الوظيفة والانتحار في طبقة واحدة من الغرابة وخطل الرأي عند الأكثرين. وليس في الوظيفة الحكومية لذاتها معابة على أحد، بل هي واجب يؤديه من يستطيع، ولكنها إذا كانت باب المستقبل الوحيد أمام الشاب المتعلم فهذه هي المعابة على المجتمع بأسره”.

و”تزداد هذه المعابة حين تكون الوظيفة كما كانت يومئذ عملا آليا لا نصيب فيه للموظف الصغير والكبير غير الطاعة وقبول التسخير، وأما المسخر المطاع فهو الحاكم الأجنبي الذي يستولي على أداة الحكم كلها، ولا يدع فيها لأبناء البلاد عملا إلا كعمل المسامير في تلك الأداة”.

كان يعد استقالته من وظيفته الميري من السوابق والخوارق الذي لم يندم عليها، بل يفتخر بها, برغم الضياع، وضيق اليد، والفقر، وبيع الكتب، والتشرد، والرجوع لبلده حيناً، والذهاب للقاهرة أحياناً, برغم كل ما عاناه بسبب هذا القرار، إلا أنه يعبر عن غبطته, ويعد الوظيفة نوعاً من العبودية والرق, وإنها رق القرن العشرين.

بالطبع كان مثل هذا المقال له صداه في فترة ملتزمة كعام 1907م يعد هذا الكلام خروجاً عما يألفه الناس من تقديس الميري وحياة الأفندية, ومن يفضل الضياع والتشرد على الميري والوظيفة، إلا رجل كالعقاد!

في الحقيقة إن جزءً كبيراً من الحق مع العقاد في هذه المقالة, إن الوظيفة وخاصة بالنسبة للأديب والكاتب والموهوب هي كالسجن, إنه يقدر القراءة في الكتب والمعرفة والكتابة والشعر, لابد أن يرى في الوظيفة سجناً وضياعاً للعمر, وأنا طالما دعوت ربي ألا يشغلني بلقمة العيش عما أرغب في تحقيقه في جانب الكتابة, ولكن من يستطيع تحمل الفقر والتشرد, من يستطيع المبيت بجوار الكتب والقراطيس وهو لا يشعر بالأمان والاستقرار؟

أحمد عامر