كثيرًا ما أقرأُ اقتباسًا شهيرًا عن أنّ عمل المرءِ في مجالٍ يُحِبُّه لهو أمرٌ بمثابةِ أن لا يعملَ أبدًا، أي من شدّةِ الاستمتاع.

لي تجارِبٌ في هذا دفعتني لأتوصّلَ إلى أنّ الواجِبَ عليكَ هو العملُ في مجالٍ تُتقِنُه، لا العملَ في مجالٍ تُحِبُّه.

قبل بِضعِ سنواتٍ احتجتُ لتصميم خلفيّةِ سطحِ مكتب، كان لديّ برنامج Adobe Photoshop ولم أعلم كيفيّةَ استخدامِه، تعلّمتُ استعمالهُ وانطلقتُ بمجالِ التصميم، استمررتُ لسنةٍ دون أن أكسبَ المال مُقابِلَ التصميم، كانت تلكَ أمتعَ فترةٍ لي في التصميم.

اليوم، وبعد إمضاءِ ثُلثيّ مسيرتي القصيرة في التصميم بالعملِ للمالِ مُقابِلَ التصميم أجِدُ نفسي وقد كرِهتُ التصميمَ أكثرَ فأكثر كُلّ يوم.

حين تخصّصتُ بتجرُبةِ الاستخدام ودرستُها وجدتُ إيجاد أخطاء تجرُبةِ الاستخدام في المواقِعِ مُمتِعةً ومُفيدةً لي ولأصحابِها، وبعدَ أن استمتعتُ بمُساعدةِ مُطلقي المواقِعِ العربيّةِ هُنا وغيرهُم قرّرتُ تقديم خدمةٍ على خمسات لتقديمِ تقريرٍ عن تجرُبةِ استخدام الموقعِ أو التطبيق، ورغم نجاح الخدمةِ نسبيًّا وحصولي على عُملاء مُتكرّرين إلّا أنّني كرهتُ تقديمها مرّةً أُخرى وأخفيتُها من هُناك، لم أتوقّف لأنّني انشغلتُ كما قُلتُ للعُملاء المُحتملين حينها -مع أنّ هذا كان سببًا حقيقيًّا، ولكِنّهُ ثانويّ- بل لأنّني كرهتُ هذا العمل ولم أعُد أستمتِعُ بهِ كما كُنتُ أفعلُ سابِقًا.

حين تعلّمتُ اللُغةَ الإنجليزيّة كُنتُ أستمتِعُ أشدّ الاستمتاعِ بترجمةِ مقالاتٍ من الإنجليزيّةِ إلى العربيّة، كُنتُ أشعرُ بأنّني أُفيدُ المُحتوى العربيّ بِكُلِّ كلمةٍ أُترجِمُها، حين بدأتُ أعملُ في الترجمة وأحصلُ على المالِ مُقابِلها كرِهتُ الترجمةَ كُرهًا جمًّا، وتأخّرتُ في تسليم العديد من مشاريع الترجمةِ حينها مع الأسف.

حين استمتعتُ بالتدوينِ في "اكتب" والتطوُّعِ للكتابةِ في "ثمانية" حاليًّا مرّت عليّ فترةٌ بدأتُ أتقاضى فيها مالًا مُقابِلَ الكِتابة، رغم أنّ ذلِكَ المشروع كان من المشاريعِ المُمتِعةِ والتجارُب الرائعة إلّا أنّني شعرتُ حين كُنتُ أكتُبُ ما أحصلُ على مالٍ مُقابلَه بفقدان شغفِ الكتابة، بل أنّني قد أجلِسُ للكتابةِ فأكتُبُ مقالًا بمُقابِل دون شغفٍ حتّى أُنهيهِ ثُمّ أنتقِلُ مُباشرةً لكتابة مقالٍ آخر قد يكونُ بفكرةٍ مُشابِهة ولكِنّهُ بدونِ مقابلٍ فأستمتِعُ به استمتاعًا جمًّا!

توقّفتُ عن العملِ الحُرِّ تمامًا مؤخّرًا وقرّرتُ أن لا أُعملَ في شيءٍ أُحِبُّهُ إلّا تطوُّعًا.

هُنالِكَ أسبابٌ أتوقّعُ أنها كانت عاملةً في هذا.

  1. التطوُّعُ لا يُلزِمُكَ بجودةٍ مُعيّنة: حين تعمَل تشعرُ بالتوتُّرِ دائمًا من ردّةِ فعل العميل على ما تُقدِّمُه، أمّا تطوُّعُكَ فإنّهُ لا يُعطي للمُشرِفِ عليكَ حقّ التحدُّثِ بلهجةٍ حادّةٍ كما يفعلُ بعضُ العُملاء، لا أقصِدُ أنّ التطوُّعَ لا يتطلّبُ الجودةَ مثلًا بل أنّك تعملُ حين تتطوّع براحتِكَ وبأُسلوبِك.

  2. حين تعمل أنتَ لا تتفضّلُ على أحد: إذا تطوّعتَ لترجمةِ مقالٍ للعربيّة فأنت تكونُ قد أفدتَ المُجتمعَ العربيّ، وتستطيعُ أن تقولَ بفخرٍ أنّكَ عمِلتَ لتحسين المُجتمعِ العربيّ دون أن يطلُبَ مِنكَ ذلِك. أمّا حين تعملُ بمُقابِل فأنت قد حصلتَ على مالٍ لتُنفِّذَ عملَك، وقد لا تحصلُ على امتيازِ وجودِ اسمِكَ فيما قدّمتَهُ أصلًا.

  3. عملُ ما تُحِبُّ يُعرِضُكَ لمواقِفٍ كئيبة: حين تعملُ كمُبرمجٍ وتتأخّر في تسليمِ شيءٍ ما ثُمّ تقرأُ ردًّا حادًّا من عميلِكَ فإنّكَ ستشعرُ بشيءٍ من الاكتئاب وقد يُولِّدُ فيكَ هذا نوعًا من الكُرهِ أو القرفِ تِجاهَ مُحرِّركَ البرمجيِّ مثلًا، شيئًا فشيئًا سيرتبِطُ ما تُحِبُّه بلحظاتِ عملِكَ السيِّئة.

نهايةً، رأيتُ من تجرُبتي أنّ الأفضلَ هو دِراسةُ مجالٍ لا تكرهُه -ليسَ مِنَ الضروريِّ أن تُحِبّهُ حُبًّا جمًّا ولكِن ضروريٌّ أن لا تكرهَهُ كُرهًا جمًّا- والعملُ فيهِ بعدَ إتقانِه، اترُك هواياتِكَ وما أنت شغوفٌ بِهِ كمجالٍ لإبهار الآخرين بمُستواكَ فيه ومجالٍ للتطوُّعِ وإفادةِ غيرَكَ مِنه، ولكِن لا تعمل فيه كيلا تكرهه، أتطلّعُ لقراءةِ آرائكُم حيالَ هذا.

يبدو هذا النصُّ أعلاه مُناسِبًا لخطابٍ على TED.