“إن نفوري من الوظيفة الحكومية في مثل ذلك العهد الذي يقدسها كان من السوابق التي أغتبط بها وأحمد الله عليها.. فلا أنسى حتى اليوم أنني تلقيت خبر قبولي في الوظيفة الأولى التي أكرهتني الظروف على طلبها كأنني أتلقى خبر الحكم بالسجن أو الأسر والعبودية.. إذ كنت أؤمن كل الإيمان بأن الموظف رقيق القرن العشرين” عباس محمود العقاد.

الوظيفة بدوام كامل ليست مناسبة لكل أحد، من مزايا الوظيفة كما يذكرها مناصروها هي ( القدرة على دفع التكاليف اليومية ، وتسديد الفواتير ، والتقاعد ، وشراء منزل والاستقرار المالي ) ، و هذا الإستقرار نفسي أيضا لأنه يعطيهم حسا بالأمان من رؤية أنفسهم يتفرغون دون عمل أي شيء ، أو أولئك الذين يخاطرون بكل شيء من أجل تحقيق أهدافهم مهما بدت مستحيلة أو بعيدة ، الإحساس بالخطر والمغامرة ليس إحساسا مريحا لمعظم الناس.

و إليكم بعض الأسباب التي ربما تجعل المبدعين غير قادرين على الدخول في عمل منتظم مع شركة خاصة أو عمومية أو وظيفة حكومية :

لا يحبون أن تملي عليهم ما يجب عليهم فعله :

غالبية البشر يكرهون هذا ، لكن المبدعين يكرهون هذا الأمر بزيادة ، زِر الجنون يُضغط لما يملي عليهم أحد ما الذي يجب على المبدع فعله أو ينبغي عليهم ، هم لا يكرهون الانضباط و يحبون الفوضى كما يفكر البعض ، هم يحبون أن يلتزموا فقط بنظامهم الخاص وأيضا لا يدعون الآخرين لئن يلتزموا بنظامهم ، بل يحبّون حرية أن يتقيدوا فقط بمبادئهم هم .

كراهية إملاء و تلّقي الأوامر ، تمثل حساسية كبيرة للمبدعين وليست فقط تلك الحساسية من كره التقييد التي توجد بشكل فطري لدى غالبية البشر فهي كما قلنا مرتفعة لدى المبدعين .

يحبون المساحات الواسعة للابداع :

لا نتحدث عن المكان ، بل عن الفكر .

المبدع يفهم أن تعطيه فكرة عامة عن الموضوع ، و طيفا واسعا من الخيارات .، والوقت المحدد للإنهاء ، و هنا يمكن إعتبار أن عملك أنت قد انتهى ، و لتدع له الوقت الكافي ليبدع لك عملا مهما و منجزا رائعا ، ليس هذا و حسب بل بطيف واسع أيضا من الخيارات التي لم تخطر لك على بال ، و بجملة من الأمور الابداعية الأخرى التي تضفي مسحة فريدة على العمل الفني المنجز غير قابلٍ للتكرار.

المبدعون يحبّون أن يعملوا حسب وتيرتهم هم ، لا حسب برنامجك الزمني :

المدراء المتشددّون سيصفون هذا الأمر بكلمة واحدة : تسيب !

و الأمر ليس كذلك ، لو أخبرك المبدع أن العمل هذا يتطلب منه ستة أشهر مثلا ، فصدّقه ، لأنه يعرف نفسه و في ستة أشهر ستتسلم عملا مهما ، فقط يجب أن تتعمل مع مبدع حقيقي ، لا شبه مبدع أو آخر غير ناضج .المبدع الحقيقي يعرف بالتجربة والخطأ والزمن : ساعته الإبداعية و يعرف بالضبط متى يمكن له أن ينجز عمله .

الوقت مفهوم غير إعتيادي و غريب بالنسبة للمبدع و كما هي أعماله يمكن أن يصطدمك بمفهومه عن الوقت والزمن ،و الذي يملك كل مبدع تعريفه الخاص عنه .

المبدعون يعشقون الاستقالية :

كما قلنا تبدو هذه الرغبة ، رغبة انسانية عادية ، لكننا نتكلم عن حس عالي بالحرية ، و حس عالي للإستقلالية. الإستقلالية قضية يمكن للمبدع أن يضحي من أجلها و يقوم بأفعال ربما تكون في نظر الآخرين تهورا أو غباء بحتاً.

ترك المساحة المخصصة لحرية المبدع مهمة جدا : الكاتب غوغول امتنع عن الكتابة للجرائد لما كان يكتب رائعته النفوس الميتة ، آخرون امتنعوا عن التدريس أو الإنتظام في سلك الوظيفة فقط ، ليتفرغوا –وبكل جنون بحت – لما يقولون أنه مهمتهم الرئيسية للحياة ، وفي مثال حي و معاصر هناك الكثير من رواد الاعمال و في الأدب هناك رفيق الشامي السوري الذي كان في شركة ألمانية بأوروبا موظفا و يعرف الألمانية و حكى قصته في كتابه الأكثر من رائع قرعة جرس لكائن جميل أنه و فجأة ترك عمله ذلك ليبدأ رحلة الأدب و الآن -على المستوى الألماني على الاقل- ناجح.

نشاطهم أو تحفزهم للعمل لا يأتي في زمن محدد من اليوم :

لو كنت رب عمل ، أو صاحب مشروع و ظننت أن بعض المبدعين الذين تعرفهم سيكونون أكثر نشاطا في الصباح ، أو ربما في الليل ، أو بعد العصر تكون مخطئا ، لا يوجد وقت محدد ، و لذلك يمكن أن يسهر المبدع لمدة أسبوع دون نوم لعمل شيء مهم بالنسبة له ، أو تجده قد استيقظ على الواحدة ليلا فقط لينجز عملا آخر أو يكتب فكرة معينة.

الروتين ‘كائن بغيض ‘ بالنسبة لهم :

ربما لديك مخاوفك الخاصة، بل كلنا نملك ذلك ، ربما يخاف أحدنا الكوابيس ، آخر يخاف السجن ، و الأماكن المغلقة آخرون يخشون أن يصبحوا فقراء ، آخرون يخافون من الإعتداء الجسدي ، مخاوف حقيقية و ربما مبررة كما تقول .

المبدعون يخافون الروتين . هناك مبدعون لا يخافونه ، بل يكرهونه و يعتبرونه عدوهم الأول ،و يجاهرون بالحرب عليه مباشرةً.

المبدعون يحبون دوما أن يعملوا في مجالات جديدة :

تجد المبدعين دوما في الصدارة ، فهم أول من اخترع الدراجة ، و أول من وضع الكاميرا (قمرة ) بن الهيثم البصري و الذي أيضا تمكن من حل معادلات من الدرجة الرابعة هندسيا بشكل يحير العقلية الرياضية حاليا ، البحوث العالية في المخروطات كما فعل الخيام ، فيتزجرالد ترجم الرباعيات للخيام التي هي شعر ممتاز ، لأنها جديدة في العالم الغربي ، آخرون الآن يعملون بجهد في نظرية الأوتار رياضياً وفيزيائياً ، آخرون يسافرون و يبحرون من أجل علم الحيوان و علم البيئة ، آخرون يعملون في مجال النانومتر ، والمجالات المتقدمة .

المبدعين تجدهم دوما في طليعة الجنس البشري .لهذا تجدهم يكرهون السير ببطء!

المصدر : موقع مقالة :

http://bit.ly/1EcsIic