ماتت جدتي-والدة أمي- بعد مولدي بأربع شهور، لم أعرف عنها الكثير، كل ما عرفته إنها كانت ذات حسن خلق وضيافة، فالكل شهد لها بذلك، هذا ما عرفته فقط، أو قل لم أحاول أن أعرف المزيد، ففي الماضي كنت أنظر للموضوع كسنة الحياة، تعرفون.. شخص يولد ثم شخص يموت، وهكذا .. لن أطول في الشرح، فنجيب محفوظ شرح الأمر كفاية في رائعته حديث الصباح والمساء، ولكن الأمر لم يعد كذلك، مفهومي عن سنة الحياة، رؤيتي للموت، بل قل علاقتي به، كل شيء تغير. تغير الوضع عندما أخبرتني والدتي أن جدتي العزيزة قد جمعت جميع أفراد العائلة فردًا فردًا وأوصتهم بي خيرًا، وصية تتضمن أن يعتنوا بى عناية خاصة، وأن يعملوا على إسعادي، انا فقط دون باقي أحفاد العائلة الكثر، انا فقط دون حتى باقي الرضع الذين ولدوا بعدى، انا فقط التي تذكرتني في لحظات معركتها الأخيرة مع السرطان الخبيث.

معلومة كهذه كانت من الممكن أن تسعد كثيرون غيرى، أو حتى تسمح لهم بتحايل للحصول على قدر أكبر من التدليل، ولكن لم يكن هذا وقع تأثيرها علي إطلاقًا، لم أرغب فى التدليل المفسد ولا حتى السعادة غامرة، رغم إنني أحيانًا ما اداعب والداتي وأخبرها أن كل ما تمنعه عنى وأنا موصى على معاملتي أكانت ستحول حياتي إلى الجحيم إذا لم تكن لهذه الوصية وجود؟

لكن هذا لم يكن شعوري على الإطلاق، فكل ما شعرت به حينها هو إنني لم أعرفها نهائيا، لا أعرف صوتها، لا أعرف كيف هي ابتسامتها، لا أدرى حتى كيف هو عبوسها، لا أدرى أي شيء، حتى هذا السرطان الكريه لم أعرف إصابته بها إلا مصادفة، لا أعرف أي شيء عنها ولا هي أيضًا عرفت، فلماذا إذا توصي بي أنا؟! ماذا رأته في شخصي عجز الجميع أن يبصره غيرها؟

هل رأت شيء فعلًا ام إنها مجرد وصية عابرة قد خطرت على بالها؟

لا أعرف ولن أعرف في حياتي الدنيوية على الأقل، ولكن على الأقل أعرف أنها رسمت لي درب بدون أن تعِ هي ذلك، فكلما أخطأت، وكلما وهنت قوتي، وكلما أردت الاستسلام، وكلما سقطت في بئر أهوائي الشخصية، أتذكرها هي. لا، ليس بصورتها الفوتوغرافية المحفوظة في بيتنا، بل كظل أبيض خفى، كصوت مبارك يصحح لي أخطائي، كنداء خفى يعيدني إلى الصواب، ربما اتخيل ضميري هي، وربما هي ضميري. ولكن في الحالتين أنا مدينة لها -بعد ربى- في كل ما وصلت إليه من إنجازات و كل ما سأصل.... فجدتي رحمها الله وهي في فراش الموت رفضت أن تكتم شيء في داخلها لأحدهم، رفضت أن تخفى هذه الوصية خوفًا من حزن أحدهم أنها لم تذكر ولده، عبرت عما في داخلها وحسب واستطاعت بذلك أن تغير مسار حياتي للأبد.

أتساءل كم منا كان باستطاعته تغير حياه أحدهم وتجاهل الأمر؟