اثنا عشر عاما قضيتها في المدرسة. قضيت فيها كل طفولتي وأول شبابي. في كل يوم أذهب إلى المدرسة لأقضي فيها بياض النهار ثم أعود لأقضي شطرا من سواد الليل منكبا على الدروس. كل هذا في سبيل العلم. وهل يوجد شيء أسمى من طلب العلم؟ّ!

ولكن هل يستحق العلم الذي جنيته في هذه السنين كل هذا الجهد والوقت؟. فأنا الآن بعد كل هذه السنين، كل ما جنيته هو كمية من القوانين الرياضية والمعادلات الكيميائية إلى غير ذلك مما درسناه في المدرسة. ومعظم ما درسته قد نسيته، ولعل ما أذكره الآن لا يكفي لملء كتيب صغير. فما فائدة كل هذا إذا كنت سأنساه في النهاية دون أن أستخدمه؟ وما فائدة المدارس إذًا؟ ربما كانت الفائدة الوحيدة التي جنيتها من المدرسة هي تلك الشهادة التي تؤهلني لدخول الجامعة. فنحن في بلادنا نجيد الكذب والتمثيل. نكذب حين نقول إن هدف المدرسة هي العلم والثقافة وتخريج طالب ذكي وواعٍ و... . في حين أن الهدف هي تلك الورقة التي تذهب بك إلى الجامعة. ونمثل حين يدعي المدرس أنه يعلم الطلاب شيئا مفيدا . ويدعي الطلاب أنهم يتعلمون، في حين أن الشيء الوحيد الذي تعلموه هو كيف يراوغون في ورقة الامتحان ليحصلوا على أعلى درجة ممكنة. وأصبح التعليم مسرحية سخيفة: المعلم يحشو رأس الطالب بالمعلومات، ثم يسكبها الطالب في الامتحان، ويخرج كما لو أنه لم يتعلم شيئا. فلا عجب إذًا ألا يهتم الطلاب بفائدة المعلومة قدر ما يهتمون باحتمالية ورودها في الامتحان. لقد كان من المفترض أن يكون الهدف هو التعليم ويكون الامتحان تقييما لما تعلمه الطالب. لكن أصبح هدف العملية التعليمية برمتها هو تقييمها.

لم يكن كافيا أنني خرجت من المدرسة بدون أي فائدة علمية، بل بجانب ذلك سببت لي ضررا نفسيا بالغا.

كانت المدرسة الابتدائية عبارة عن مبنى كئيب، محاط بسور عالٍ. وكانت أبواب السور الحديدية تغلق بالسلاسل والأقفال بعد دخول الطلاب لمنعهم من الهروب. كانت أشبه بالسجن. وفي داخل هذا السجن توجد الفصول حيث يتكدس الأطفال فوق مقاعد خشبية قديمة لا تخلو من مسامير بارزة قد تمزق ثيابك إن لم تكن حذرا. وكان المعلمون يمارسون ألوانا من العذاب على هؤلاء الأطفال. وقد توصل عدد من المدرسين بعد دراسة طويلة إلى أن الضرب بفرع من شجر الرمان هو أكثر شيء إيلاما بعد الضرب بسير الغسالة. وكان أحد المدرسين يسمي عصاه "عزيزة" ربما لأنها كانت أعز عليه من الطلاب الذين يضربهم بها. وكانت الحصص تقسم لوقت للشرح ووقت للتفتيش على الواجب يعقبه ضرب مهين لمن لم يؤد الواجب. وكان الطلاب يجلسون في خوف صامت ينظرون إلى المدرس وهو يسحب واحدا تلو الآخر لتلقي العقاب. ومضت أيام الدراسة الابتدائية على هذا النحو، لم نأخذ منها شيئا إلا الألم النفسي من الضرب المهين. ثم دخلنا إلى المدرسة الإعدادية التي لم تختلف كثيرا عن سابقتها، ولا زلت أذكر أنه في آخر يوم في الإعدادية تجمع الطلاب وانهالوا على المعلمين بالحجارة حتى أدموهم وحطموا سيارة أحدهم، وهذا يدل على مقدار الغل الذي حمله الطلاب لسنين طويلة تجاه المعلمين.

ثم دخلت إلى المدرسة الثانوية، كانت الثانوية تعني مزيدا من الحرية. لم يعد المعلمون يضربون الطلاب. ليس لأنهم عرفوا الضرر النفسي للضرب - لا سمح الله - بل لأن الطلاب أصبحوا قادرين على رد الصاع صاعين. وكان لا يمر شهر في المدرسة إلا ونرى طالبا ضرب معلما. أذكر أنه ذات يوم تعارك معلم وطالب ونال كل منهما من الآخر لكن المعلم استطاع بقوة جسده أن يطرح الطالب أرضا وأشبعه ركلا. فما كان من الطالب إلا أن خرج من المدرسة وأحضر أخوته وأبناء عمه وانهالوا على المعلم ضربا حتى تمزقت ملابسه. وكان عقاب الطالب أنه فصل من المدرسة فصلا نهائيا. والفصل النهائي يعني أنه سيقضي السنة الدراسية في المنزل ثم يذهب للمدرسة للامتحانات فقط. لا أدري هل هذا عقاب أم مكافئة! في الثانوية كان الطلاب هم الطرف الأقوى. فجدول الحصص الذي يحوي سبع حصص يوميا تم اختصاره إلى أربع فقط، لإنه لا يبقى أحد بعد الحصة الرابعة! والفصل الدراسي الذي مدته ثلاثة شهور، كنا نذهب إلى المدرسة في الأسبوعين الأولين. ثم نقرر جميعا ألا نذهب بعد ذلك. كانت حرية أقرب إلى الفوضى، كان من الممكن أن تجد في الفصل تبغا وحشيشا، ومن الممكن أن تجد أسلحة بيضاء وأحيانا نارية، لكن أن تجد شرحا أو درسا مفيدا، لا تحدثني عن ذلك!

وعلى هذا المنوال مضت الأيام وتخرجت من المدرسة. وأنا أتأمل الآن في تلك السنوات التي مضت، والتي أعتقد أنها كانت بلا فائدة حقا. فكل ما يحويه عقلي اليوم هو ما تعلمته بنفسي من الكتب ومن الإنترنت بعيدا عن المدرسة. لم أتعلم في المدرسة شيئا مفيدا، بل تعلمت الخوف من العقاب، وتعلمت الغباء لكي أجاري غباء المعلمين والمناهج، وتعلمت الغش لأنني في جميع الأحوال لا أتعلم شيئا.

وأنا الآن في السنة قبل الأخيرة في الجامعة، وعلى مقربة من الخروج من مقاعد الدراسة نهائيا. أحاول أن أتخلص من التأثير الذي تركته المدرسة فيّ. أحاول أن أستعيد شغفي للعلم، وأن اتعلم من أجل العلم فقط وليس من أجل الامتحان، وأن أتعلم ما يفيدني حقا وما يجعلني إنسانا أفضل.

وأختم بمقولة سمعتها ولا أعرف قائلها: "يولد الأطفال أذكياء ومبدعين، ثم يدخلون المدرسة!".