تنبيه: هذه القصة طويلة بعض الشيء، إذا كانت لديك أمور مهمة أنجزها أولًا ثم عد لقراءتها.

منذ صغري وأنا أسمع عبارات كثيرة مثل "خلك بحالك" و "كن طيب تحبك الناس" و "طنش تعش" و "لا تضرب أحد" و "خلك عاقل" و "تقبل الإساءة"... وغيرها العشرات، وكلها تصب في موضوع لا تستعمل عضلاتك، ولا ترد على من أساء لك، فهي لن تحل شيئًا، بل ستزيد الأمور سوءًا، ومن خلال سنواتي الطوال التي عشتها وقابلت فيها العديد من عينات المجتمع اكتشفت أن أغلبها غير صحيح، وأن الأشخاص السيئين لا ينفع معهم إلا لغة واحدة، لغة اللكمات والرفسات.

وحتى لا يكون كلامي عبارة عن هراء لا يستند على شيء، سأخبركم بقصه حدثت قبل سنوات، أيام الجامعة، كنت نازلنا مع زميلي من القاعة للدور السفلي قاصدين البوفية، وإذ برجل أول مره أشاهده في حياتي، طويل القامة عريض الجسم في منتصف العشرينيات من العمر يحدثني بلغته العامية التي بالكاد أفهم منها شيئًا.

وكان كل كلامه عبارة عن تهديد ووعيد بأنه سوف يكسر رأسي أنا وأخي، فكرت للحظة بأن هذا مجرد مقلب وسينتهي خلال لحظات، لذا علي التظاهر وكأن شيئًا لم يكن.

ولكن عجبًا، هذا الرجل لا ينفك يتوعد بتكسير رأسي، حاولت أن أتفاهم معه ولكن دون جدوى، والشيء البسيط الذي يحول بيني وبين إحالته إلى العناية المركزة هو قرب موعد تخرجي من الجامعة، أقول في نفسي: كل الفترة الماضي وأنا طيب، حرام أخربها الحين.

ثم طفح الكيل وقلت له بنبره حادة: أسمع، أنا لا أعرفك، ولكن إن كانت المشاكل هي ما تبحث عنه، فأنا ولدت أساسًا داخل مشكلة، أختر الزمان والمكان وقابلني هناك إن كنت رجلًا.

عاد زميلي لتوه من البوفية وبدا له أن الجو مشحون، فسأني ما القصة؟ ردت عليه بأن هذا المجنون يريد مشاجرتي، نظر إليه وقال بالعامية "سري" يعني انقلع، وفعلًا ذهب ذلك الرجل.

ومن قبيل الصدفة خرجت مع أخي من المسجد بعد صلاة العصر وقابلنا ذلك الرجل المجهول، مسكته من يده وقلت له بأن هذا أخي الذي كنت تتوعد بتكسير رأسي ورأسه، إذا كان لديك مشكلة فلتحلها الآن.

تغيرت نبرة صوته التهددية التي كان عليها في الجامعة، قال كان الموضوع سوء تفاهم، ولم أكن أقصد شيئًا.

وبعد عدة أشهر، انتهى الفصل الراسي، ولم يبقى علي إلا فصل دراسي واحد لأنتهي من تلك الجامعة اللعينة (1)، حدث وتقابلنا في نفس المقرر، ولم أتوقع بأن يحدث شيء فمرت شهور عديدة منذ آخر مرة قابلت الرجل المجهول فيها.

بعد انتهاء المحاضرة انطلق مباشرة نحو أخي، وقال لقد جمعي الله بك، الآن أكسر رأسك، حاولت أن أتفاهم معه للمره الثاني ولكن لا شيء يتغير، يُمسك أخي من صدره بقميصه، وينوي لكمه في وجهه، ولكن هيهات أن تضربه وأنا موجود، تدخلت بسرعة بينهما وحاولت أن أطرحة أرضًا، كان جسمه كبير، ربما يوازي جسمي مرتين بدون مبالغه، والمشكلة أنه يمسك بأخي، فبالله كيف سأطرحه أرضًا وهو ممسك بشخص آخر.

استجمعت كل طاقتي وبالكاد طرحته -ألمني ظهري عدة أيام بسبب الحمل الزائد :) -، ألتففتُ بسرعة لأضربه أكثر فطرحهُ أرضًا لا يكفي، وإذ بفرقة التدخل السريع -الجمهور- يتدخلون ويبعدونني عنه، عجبًا، أين كانوا من قبل؟؟

أمسكني بعضهم والبعض الآخر أمسك أخي، وتركوا المسكين حرًا طليقًا، فيبدو أننا نحن الأشرار وليس هو، قام يتوعد ويسب ويلعن بأنه سيثأر منا وانطلق مسرعًا يريد ضربي ولكن لحسن الحظ تجنبت ضربته، لو أصابتني لضربت الأشخاص الذي أمسكوا بي قبل أن أضربه.

توجهت بعدها مع أخي إلى مدير الكلية حتى نرفع عليه شكوى، ولكن كعادة موظف الاستقبال يقوم بتصريفك حتى لا يخرب على المدير سوالفه، عفوًا أقصد أجتماعه.

وما هي إلى ساعات حتى تقابلنا مجددًا بعد صلاة المغرب، وللمره الثالثة حاولت التحاور معه بالطيب ولكن دون جدوى، وكان يقول بكل وقاحة، سأقابلكم فيما بعد، حسنًا، طالما أن المشكلة قادمة قادمة -تعمدت تكرار الكلمة مرتين، ليس غلط مطبعي- لا محالة، فلنجعلها الآن.

قمنا بإبراحه ضربًا، وكلما تدخل أحد ليفك الشجار عدنا لنضرية مجددًا ومجددًا، ثم انتهى الشجار وذهب كلٌ في طريقة، توقعت أن يعود في الغد مع 20 شخص من جماعته ليكسروا رأسينا ولكن ما حدث كان مختلفًا.

لقد ذهب واشتكى علينا في ثلاث أماكن مختلفة، في الكلية، وفي أمن الجامعة، وفي مكتب التوجية والإرشاد الخاص بالطلاب، هنا يتجلى لك المثل القديم، ضربني وبكى وسبقني واشتكى.

كان يألفُ لهم قصص عجيبها لا يصدقها عقل، بأننا نتحرش به، وأننا نسرق عليه طعامه، حتى في مره من المرات طلب له غداء وأخذناه عليه بالقوة، بدأت أشك بأننا قطاع طرق لا طلاب جامعه.

وبعد مجموعة من التحقيقات التي دارت معنا تركونا في حال سبيلنا من دون أي عقوبات، فقد تبين لهم أن الحق معنا وأنه مريض نفسيًا -شافاه الله وجميع مرضى العالم-.

ومن تلك اللحظة توقف ذلك الرجل عن إزعاجنا نهائيًا، لدرجة عندما كنا نلتقي بالصدفة في أحدد ممرات الجامعة يتوقف مكانه دون حراك إلى أن نمر من الطريق.

ثم انتهت أخيرًا السنة الجامعية، وحصلت على شهادة التخرج، وعاش الجميع بتعاسة إلى الأبد، عفوًا أقصد بسعادة إلى الأبد.

ما أقصده من خلال هذه القصة، الحياة صعبة، لا تتوقع أن تعيش بكرامة وأنت تتمثل المثالية، لا يوجد مثالية أصلًا في هذا العالم حتى تكون مثالي، المثالية كذبه أخترعها الأشرار فصدقها الطيبين، العالم لعين، ملين بالأشخاص الحثالة، لا تحسب بأنك إذا بقيت طيب ومثالي ستعيش حياة جميلة، تعلم أن تكون قويًا، لا تظلم أحدًا، ولا تترك الآخرين يظلموك، لن أقول لك أرسم خطوط حمراء لا يتجاوزها أحد، سأقول لك أبني جدران أسمنتية حمراء لا يتجاوزها أحد، وأجعلها واضح يراها الجميع من عشرات الكيلو مترات، تجاوز عن الأولى، وسامح في الثانية، وكسر رأسه في الثالثة، لا ترضى بالإهانة ولا تقبل الإساءة، وأجعل كرامتك وعزة نفسك فوق كل شيء.


(1) لماذا قلت بأن الجامعة لعينه: