بداية كل عام وأنتم بخير بمناسبة عيد الفطر وتقبل الله صيامكم وطاعتكم. أعتذر عن التأخر في إخراج هذا الجزء حيث كانت الأيام الأخيرة من شهر رمضان حافلة نوعا ما خاصة مع عملي بوظيفة جديدة أخذ مني الانسجام فيها بعض الوقت، علاوة على محاولتي جعل هذا الجزء أطول بناء على طلب الأعضاء وملاحظاتهم على الجزء السابق

الجزء الثالث: كيف وصلت إلى ألمانيا

بعد انتهائي من دراسة الماجستير عدت إلى فلسطين باحثا عن عمل، حيث حصلت مبدئيا على وظيفة جزئية في جامعة القدس حيث كنت أعمل وقمت بتدريس بعض المواد في تخصص الحاسوب وتكنولوجيا المعلومات. في نفس الوقت حصلت على عقد مؤقت للعمل مع مؤسسة أهلية محلية على مشروع لمدة لا تتجاوز العشرة أشهر، إلا أن هذا العمل الأخير أنقذ مسيرتي نحو الحصول على المنحة بشكل لم أكن أتوقعه.

لمن لا يعلم شروط الحصول على منحة من مؤسسة DAAD لدرجة الدكتوراة فهي أن يكون معدل الماجستير "جيد جدا" وأن يحصل المتقدم على رسالة من بروفيسور في جامعة ألمانية يقبل فيها هذا الطالب بشكل رسمي كمرشح للدكتوراة في القسم الذي يديره – وهذه الخطوة الأصعب. كما ذكرت في الجزء السابق فإن العلاقات الشخصية مع المشرف الألماني تلعب دورا هاما في تسهيل الحصول على قبول، بل حتى يمكن أن يقدم لك مقترح البحث جاهزا لأنه يعلم مايريد وما يحتاجه هو شخص يقوم بالعمل. بالنسبة لي لم يكن الأمر بهذه السهولة، حيث كنت أراسل المشرفين من تلقاء نفسي وأطلب منهم الحصول على قبول. هذه التجربة علمتني بعض القواعد في التعامل مع المشرفين أسردها هنا بشكل مختصر لمن يفكر في أن يخوض هذه التجربة حتى يستفيد ولا يقع في أخطائي وأخطاء غيري، وبعدها سأوضح كيف جرت الأمور معي:

  1. اللغة ثم اللغة ثم اللغة! لا أبالغ إن قلت إن كتابة بريد إلكتروني للمشرف باللغة الألمانية ستجعلك تتميز عن أغلب المتقدمين حيث من الطبيعي أن يتراسل الناس بالإنجليزية. لكن الألمان متعصبون للغتهم وكثير من المشرفين والباحثين ليسوا استثناء، بل قد يطلب منك العمل وكتابة الأبحاث والرسالة بالألمانية أيضا. لذا فمعرفة جيدة أو حتى متوسطة بالألمانية ستجعلك متميزا من بين الحشود التي تتنافس على مقاعد الدكتوراة.
  2. استخدم عنوان بريد أكاديمي للتواصل (مثل بريد جامعتك السابقة) وتجنب إرسال المرفقات في اتصالك الأول. فعنوان البريد التجاري مثل Hotmail, gmail وإضافة ملفات مرفقة للرسالة سيرفع حظوظها في أن تذهب لمجلد الرسائل غير المرغوبة (junk) عند الطرف الآخر. لكن إذا حصلت على رد وطلب منك شهادات أو سيرة ذاتية فلا مانع طبعا من إرفاقها.
  3. لا تذكر أن هدفك هو الحصول على مقعد دكتوراة من أجل إكمال شروط المنحة فحسب كما فعل بعضهم، فهذا يظهر للمشرف أنك لا تأخذه على محمل الجد وأنه بالنسبة لك مجرد وسيلة. كيف تصنع إذن وماذا تكتب في رسالة الطلب؟ أولا تصفح موقع القسم والجامعه وتعرف على مجموعات البحث ومجالات الاهتمام، وحاول أن توجد نقاطا مشتركة بين خبرتك البحثية واهتمامات المجموعات التي يشرف عليها البروفسور الذي تراسله. حاول بعدها أن تصيغ رسالة تظهر مدى اهتمامك بهذه الأبحاث ورغبتك في أن تساهم فيها وأنك يمكن أن تكون عنصرا فعالا في هذه المجموعة البحثية التي تبحث عن قبول فيها.
  4. هناك نوعان من مقاعدة الدكتوراة: النوع الأول هو المقعد الممول من خلال مشروع بحثي وهذا يضمن لصاحبه راتبا شهريا مقابل دراسته متى ما حصل على القبول. من الطبيعي أن تكون المنافسة على هذه المقاعد عالية بالتالي ستكون حظوظك في الحصول على قبول متدينة إلا إن كنت فعلا مميزا ولك نتاج بحثي لافت يمكن أن يثير إعجاب المشرف. إن لم يكن الأمر كذلك فعليك بالنوع الثاني وهو الممول ذاتيا من خلال الطالب نفسه. هذا النوع من المقاعد يحظى بشعبية أقل نظرا لانعدام الفائدة المالية منه، بالتالي لا يقصده إلّا من يملك مالا يمكنه من تمويل دراسته ذاتيا، أو من يعتمد على منحة من طرف ثالث لتمويل دراسته. الجانب السيء الآخر هو تدني جودة البحث العلمي التي يمكن أن تتوقعها من مقعد كهذا (نظرا لعدم وجود تمويل كاف) بيد أن إمكانية الحصول على قبول تكون أسهل في هذه الحالة، وهو تماما ما حدث معي.

هذه الأمور كانت تتضح لي شيئا فشيئا إما من خلال التجربة أو من خلال حضور ورش عمل مقدمة من DAAD تشرح للطلاب كيفية الحصول على تمويل لدراستهم العليا في ألمانيا. إذا كنت ترغب في الحصول على قبول لدرجة الماجستير فالموضوع أسهل قليلا، حيث كل ما عليك هو أن تتصفح مواقع الجامعات وتختار تخصصك ومن ثم تتقدم بطلب مرفقا كل المستندات اللازمة مثل كشوف العلامات ورسائل التزكية وغيرها مما تطلب عادة من قبل الجامعات.

أما بالنسبة للدكتوراة فإن لم تكن على تواصل مسبق مع مشرف ولا تعرف من أين تبدأ، فلا شك أن وجهتك الأولى ستكون قاعدة بيانات مرشحي الدكتوراة في ألمانيا، وهي أيضا مدعومة من مؤسسة DAAD. يمكن الدخول إلى قاعدة البيانات من خلال الرابط

http://bit.ly/1tdZnlN

.

محرك البحث الخاص بقاعدة البيانات هذه يسهل عليك الحصول على نتائج تناسب رغبتك حيث يمكن البحث من خلال اختيار التخصص ولغة الدراسة والمدينة ووجود التمويل من عدمه. شخصيا كان تواصلي الأول مع مشرفي من خلال قاعدة البيانات هذه، حيث كنت أبحث بشكل عام في تخصص علم الحاسوب. أما وجود شاغر في مجال تطوير الألعاب تحديدا وكون هذا الشاغر غير مموّل فكان من قبيل حسن الحظ بالنسبة لي - ويمكن أن تضيف لهذا كون الجامعة في مدينة صغيرة وتكاليف المعيشة فيها منخفضة نسبيا وهي مدينة كاسل.

أخذ الأمر بعض الوقت، حيث من عادة الألمان أخذ إجازات طويلة في أوقات مختلفة من السنة، وفي العادة لا يوجد من ينوب عن الشخص الغائب بالتالي عليك الانتظار. تواصلت معي سكرتيرة المشرف بعد حوالي أسبوعين وكان السؤال الأهم هو عن كيفية التمويل قبل كل شيء موضحة أنهم لا يستطيعون المساهمة في هذا الأمر، وكان جوابي هو أنني أحتاج القبول لأقدم على منحة، وفي حال حصولي عليها سيكون هناك من يغطي تكاليف الدراسة. هذا التوضيح كان كافيا للحصول على رسالة القبول – حتى بدون التدقيق كثيرا في محتوى مقترح البحث الذي أرسلته حيث لم يطلب أي تعديل عليه – بالتالي اكتملت متطلبات التقديم على المنحة بالنسبة لي.

فرصتك في ألمانيا = صفر!

من الأمور المهم مراعاتها عند كتابة مقترح البحث ألا يقل عن 5 صفحات وأن يستند على عدد لا بأس به من المراجع العلمية. لكن الأهم هو أن تكون رسالة القبول أيضا مرتبطة بمقترح البحث. معنى ذلك أنه لا يكفي أن يذكر المشرف في الرسالة أنه سيقبلك، بل عليه أن يبرر ذلك بأنك ستعمل في مجال البحث الفلاني ويذكر أهمية ذلك البحث وما هي المخرجات المتوقعة، بحيث يشعر اللجنة بأنه شديد الرغبة في انضمامك إلى فريق العمل لديه. هذا الأمر تحديدا كان ناقصا في نسخة رسالة القبول الأولية التي حصلت عليها، لكنني تداركت الموقف بعد حادثة طريفة لعبت الصدفة فيها دورا محوريا.

هذه القصة حدثت بعد وقت قليل من إقفال باب التقدم للمنح وقبل بدء عملية فرز الطلبات. كان هذا في خريف عام 2011 (لا أذكر الشهر بالتحديد) وكنت في تلك الفترة أعمل مع مؤسسة أهلية في رام الله. في ذلك اليوم كنت مع زميلي في المؤسسة في زيارة إلى جامعة بيرزيت للاجتماع بأحد أساتذة القانون هناك بخصوص مشروع تعمل عليه مؤسستنا. بعد انتهاء الاجتماع وقبل مغادرتنا استأذنت زميلي في ربع ساعة لأمر على مكتب مديرة مكتب DAAD في القدس Helga Baumgarten حيث كانت تعمل أيضا مدرسة في قسم العلوم السياسية في الجامعة (بالمناسبة هذه الأستاذة تتحدث العربية بطلاقة ولها عدة مؤلفات بالألمانية حول القضية الفلسطينية يمكنكم الوصول إليها بالبحث عن اسمها). كانت يفترض أن تكون هذه زيارة عادية لأسأل عن عملية الفرز أين وصلت، وإذا ما كانت قوائم المطلوبين للمقابلات الشخصية – وهي الخطوة الثانية بعد الفرز – ستصدر قريبا. هنا كانت الصدمة حيث أخبرتني أن طلبي ناقص وأن "فرصتي في ألمانيا هي صفر"! نعم، قالت ذلك بالعربية. بعد أن ابتلعت الصدمة واستجمعت نفسي سألتها عن سبب ذلك وأخبرتها أنني قدمت كل ما هو مطلوب بحسب اللوائح الرسمية، فأوضحت لي أن رسالة القبول مقتضبة وغير مقنعة، وبالتالي لن تقوم بإرسال طلبي للجنة في ألمانيا وذلك لأنها متأكدة من رفضه من قبلهم.

بعدها بدأت مفاوضات قصيرة بيننا أوضحت فيها أن الرسالة ليست الوحيدة وأن هناك مقترح بحث مفصلا، علاوة على أن هذا الأمر غير مذكور في تفاصيل التقدم للمنحة المعلن عنها. لنقل أنني نجحت في تليين موقفها قليلا – خاصة أنني لم أخالف أي شرط بشكل رسمي – مما حدا بها بعد مكالمة هاتفية قصيرة مع المكتب لإعطائي فرصة لمدة لا تزيد على أسبوعين أي قبل اجتماع اللجنة للنظر في الطلبات. ولأستدرك الموقف كان علي أن أحصل على رسالة جديدة مطابقة للشروط وأذكر المزيد من التفاصيل الناقصة في مقترح البحث. لذا قمت من فوري بإرسال رسالة مستعجلة للمشرف أبلغه فيها بهذه التطورات، ولحسن حظي كانت استجابته سريعة حيث سمح لي بكتابة النص الذي أرغب به في الرسالة وقام هو بالتوقيع عليه وحسب. وكما يقول المثل "صدفة خير من ألف ميعاد"، حيث كانت هذه الزيارة السريعة غير المرتبة سببا في إنقاذ مسيرتي دون ترتيب مسبق.

معركة المقابلة الشخصية

مرت الأمور على خير وبقيت آخر مرحلة قبل إرسال طلبات المرشحين إلى ألمانيا، وهي المقابلة الشخصية. طبيعة المقابلة تتمحور حول مقترح البحث وفائدة الدرجة العلمية المنشودة لبلد الطالب، وتتكون اللجنة من مديرة مكتب المؤسسة وعدد من الأساتذة ذوي التخصص المناسب لتخصص المرشح، وهؤلاء جميعهم من فلسطين ويدرّسون في جامعاتها. وبرغم كون أحد أعضاء اللجنة أحد أساتذتي في مرحلة البكالوريوس، إلا أن هذا لم يشعرني بالارتياح بل على العكس زاد من توتري؛ فماذا لو كان أدائي سيئا أمام هذا الأستاذ الذي يعرفني ويعتبرني أحد أفضل طلابه؟ خاصة أنه من عرض علي العمل في الجامعة بعد تخرجي وكان ممن كتب رسالة توصية لي في فترة الماجستير. عند وصولي لمكان المقابلة - والتي ستكون بالإنجليزية فقط - كان علي الانتظار لمدة تقل عن الساعة بقليل قبل أن يأتي دوري، شهدت خلالها خروج أحد المرشحين منزعجا حيث سأله زميله عما جرى معه فأجاب بأن مديرة المكتب أخبرته قبل المغادرة أن يعود في المرة القادمة بلغة إنجليزية أفضل، ولعلها كلمات كافية لإبلاغه بفشله في المقابلة منذ البداية. انتابني حينها شعور مختلط من الفرح والخوف. نعم لن أنكر أنني سررت حين فكرت في الأمر بأنانية الإنسان الفطرية، حيث قلت في نفسي: ها هو منافس أزيح عن الطريق مما يزيد فرصتي. أما خوفي فكان مصدره جهلي بمستوى ذلك المرشح في اللغة الإنجليزية، فماذا لو كان سمع هذه الكلمات برغم أن لغته الإنجليزية أفضل مني؟ ماذا سيحل بي حينها؟

حان دوري فدخلت إلى غرفة المقابلة، وقبل أن أبدأ الحديث رحبت بي المديرة بابتسامة وطلبت مني الجلوس، ومن ثم شرحت بشكل مختصر الهدف من المقابلة. لعل هذه المقدمة تهدف لتخفيف التوتر وتلطيف الجو قبل بداية المعركة، حيث جلست بعدها صامتة وتركت المجال لأعضاء اللجنة لينهالوا علي بأسئلتهم دون رحمة. هل أبالغ حين أقول إنها معركة؟ لا أظن ذلك، فحين كنت أستقبل سؤالا من أحد الأعضاء وأبدأ بالإجابة عنه يستوقفني آخر ويطرح سؤالا حول أمر ما ذكرته في إجابتي فأبدأ بالتطرق لموضوع آخر وهكذا بلا توقف لالتقاط الأنفاس أمام ستة من المتخصصين في مجالك يرمونك عن قوس واحدة! العامل المشترك في جميع هذه الأسئلة هو محاولة النيل من مشروعك البحثي باللعب على وتر أنه غير ذو فائدة تارة، وأنه لا يناسب بلادنا تارة أخرى حتى لو كان مفيدا في ألمانيا. المهم هو أن يتم حشرك في الزاوية لتدافع ببسالة عن نفسك وعن بحثك وتخصصك الذي اخترته. المذهل في الموضوع هو انطلاق لساني بلغة إنجليزية طلِقة لم أكن يوما أتخيل أنني أتقنها وإجابتي بمستوى مرضٍ لي عن جميع الأسئلة. لذا خرجت من المقابلة بعد ما يقرب من نصف الساعة برضى تام وكنت مقتنعا أنني أبليت بلاء حسنا. لم يخب ظني في نتيجة المقابلة؛ فما هي إلا أشهر قليلة وإذا بالقبول النهائي يصلني، مصحوبا بخطوات وإجراءات تخطط لي حياتي في الأشهر القادمة قبل أن ألتحق رسميا بالجامعة وأباشر الدراسة، وأهم ما في هذه الأشهر ستكون دورة اللغة الألمانية في مدينة كولن، والتي سأتحدث عنها في الجزء القادم إن شاء الله.