السلام عليكم،

اعلم عزيزي قارئ هذه السطور أن كاتبها ليس عاشقا للتدوين أو مغامرا لديه الكثير من القصص ليرويها. فأنا لم أطف كثيرا من البلدان وأخالط الشعوب وأستكشف الدنيا. ما أنا إلا طالب علم مر بتجارب كثيرة على مدى العشر سنوات الأخيرة من حياته، وسمتها المشتركة هي الخلو من الاستقرار مكانيا ووظيفيا ولا حتى فكريا. كتابتي هذه ما هي إلا مشاركة لما يحضرني من هذه التجارب علها تكون ذات فائدة لك، على الأقل في تجنب بعض الأخطاء التي وقعت بها وعانيت من نتائجها فيما بعد.

قررت كتابة هذا المقال كسلسلة أتمنى أن أوفّق لإكمالها حول تجربتي الشخصية في السفر والحياة في ألمانيا لمدة أربع سنوات: كيف وصلت؟ لماذا ذهبت؟ ولم عدت؟ وماذا أنجزت؟ ماذا أحببت وماذا كرهت وكيف تغيرت - إن كنت حقا قد تغيرت -؟ . هذا المقال الأول هو وفاء بوعدي للأخ عمرو محمد "axok12" والذي اشترط مشاركة تجربتي مقابل تبرعه بجزء من وقته لمساعدتي في جمع البيانات للعبة التي أعمل عليها في بحثي للدكتوراة.

========= فاصل إعلاني =================

لا زلت بحاجة للاعبين أكثر لإكمال البحث المذكور، إن لم تكن بعد شاركت يسعدني أن تقوم بتحميل اللعبة ولعبها لتساعدني في جمع البيانات، التفاصيل في الموضوع التالي:

========= انتهى الفاصل =================

الجزء الأول: من قال أنني أريد الذهاب إلى ألمانيا؟

هذا البلد أصبح في السنوات الأخيرة ذائع الصيت كمقصد للطلاب أو السياح أو حتى الفارين من بلدانهم المنكوبة، والكثير من الشباب الذين التقيتهم هناك سعداء بحياتهم فيه ولا يفكرون بتركه والعودة لبلادهم أو البلاد العربية إجمالا، وأكثر منهم من يقابلني هنا في فلسطين وبمجرد معرفته بأنني كنت هناك يبادرني بسؤال الاستهجان "شو اللي رجعك؟!" وهو سؤال سأجيب عليه جزئيا في ختام السلسلة إن قدّر لي إكمالها، بيد أن السبب الأكبر شخصي لا يمكنني البوح به.

هذه الشعبية المفرطة لألمانيا لم تكن معروفة – على الأقل بالنسبة لي ومن حولي – وقت تخرجي من الجامعة عام 2005، بل لم يكن هذا البلد أصلا في خطتي المستقبلية. إلى أين كنت أريد الذهاب إذن؟ أي مكان لكن ليس ألمانيا! لدرجة أنني فكرت في لحظة ما في إكمال دراسة الماجستير في فلسطين وألا أسافر لأي مكان.

البلد الأول على قائمة أولوياتي للدراسات العليا كان – ياللمفاجأة – الولايات المتحدة، والتي تقدمت لأربع جامعات وعدد من المنح التي يمكن أن توصلني إليها. في تلك اللحظة بالذات أدركت معنى "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن" وعشتها على أرض الواقع. عشرات المراسلات مع الجامعات والمؤسسات المانحة وتقديم الاختبارات اللازمة مثل TOEFL و GRE، ولكن الحظ يعاند: فتارة أحصل على منحة وأفشل في تحصيل القبول (بالتالي أخسر المنحة) ومرة أخرى أحصل على قبول من دون منحة وبالطبع لم تكن الدراسة على حسابي الخاص واردة على الإطلاق. استمر هذا الأمر لسنتين لم أترك بلدا يمكنني أن أتقدم له إلا وطرقت بابه: أميركا بريطانيا ماليزيا حتى اليابان وكوريا الجنوبية، لكن ليس ألمانيا!

تعلمت خلال هذه التجربة عدة أمور حول التقدم للدراسات العليا في الولايات المتحدة، أهمها أن لجنة المقابلة لن تركز علي أي نواح علمية، وهو الأمر الذي فاجأني وأدى لأداء سيء في مقابلتي معهم. فلسفة العم سام هنا أن يترك الأمور العلمية للجامعات، فهي المخولة بقبول أو رفض طلبك بناء على نتائج الاختبارات التي ذكرتها سابقا، أما لجنة المقابلة فهي تحاول أن تحلل شخصيتك: أسئلة مثل "من هو قدوتك في الحياة؟"، "كيف ستساهم خلال دراستك في توطيد العلاقات بين أميركا وبلدك؟"، "ماذا ستقول لأبناء بلدك عن أميركا بعد عودتك؟" كل هذه الأمور لم أعد نفسي لها جيدا، إضافة لدرجات فوق المتوسط بقليل في الاختبارات والتي لم تؤهلني للحصول على قبول في بعض الجامعات التي تقدمت لها.

بعد سنتين من المحاولات الفاشلة، قررت أخيرا أن أسلك طريقا باتجاه ألمانيا، لا لشيء إلا لانقطاع غيرها من الطرق. هذه المرة طرقت باب الخدمة الألمانية للتبادل الأكاديمي المعروفة باسم DAAD، لكن حتى معهم لم تكن الوجهة هي ألمانيا بل الأردن! فإحدى الخيارات التي تطرحها المؤسسة للطلاب الفلسطينيين هي إتمام دراسة الماجستير في الأردن إضافة إلى ألمانيا. بعد التقدم بالطلب تم طلبي للمقابلة الشخصية، والتي اختلفت تماما عن سابقتها مع الأمريكان. المقابلة مع المؤسسة الألمانية كانت في معظمها علمية تتمحور حول تخصصي السابق وتخصصي المرتقب في الماجستير، وكيف ستساهم دراستي في تحسين مستوى البحث العلمي في بلدي. بيد أن المقابلة لم تخلُ أيضا من أسئلة شخصية مثل "لم اخترت الأردن وليس ألمانيا؟". لا أنكر أنني كنت على علم مسبق أن هذا السؤال سيطرح، وذلك من خلال تواصلي مع بعض من سبقوني لهذه المنحة. الفخ الذي يقع فيه كثير من الطلاب هنا هو الإجابة عن هذا السؤال من وجهة نظر اجتماعية: كقولهم أن الأردن أقرب جغرافيا وثقافيا وربما يقول أن له أقارب هناك إلخ... وهذه الإجابة بالطبع لن تعجب الألمان بالتالي سيشطب اسمك من قائمة المرشحين. بالنسبة لي حجتي كانت جاهزة وهي عبارة عن ملاحظة غير رسمية ذكرتها المؤسسة على موقعها، تقول فيها أنه يفضل ألا يقل معدل المتقدم للمنحة في ألمانيا عن 85%، بينما بالكاد يتجاوز معدلي 80%. فما كان مني إلا أن أجبت "كنت فعلا أتمنى الذهاب إلى ألمانيا لكن معدلي لم يسمح لي حيث يقل عن 85 بكثير، سأذهب إلى ألمانيا في الدكتوراة بكل تأكيد". هل كنت أكذب حين قلت هذا؟ أنا نفسي لا أعلم ذلك حتى الآن!

بعد أربعة أشهر من الانتظار المرير تلقيت رسالة القبول أخيرا، وفترة الانتظار هذه كانت إحدى الأشياء التي كنت ولا زلت أكرهها في التعامل مع الألمان وهي إجراءاتهم الروتينية البطيئة جدا، حيث كان عليهم أن يرسلوا توصياتهم بريديا إلى ألمانيا ثم ينتظروا اجتماع لجنة الاختيار هناك، ومن ثم ترد اللجنة بأسماء المقبولين في كل بلد. بالرغم من ذلك لا أنكر أنني كدت أطير من الفرحة، حيث كنت قد يئست تقريبا من الحصول على أي منحة، لكن رسالة إلكترونية من مديرة مكتب DAAD آنذاك الدكتورة "هيلجا باومجارتن" كانت كفيلة ببعث الأمل من جديد.

في الجزء القادم سأتحدث إن شاء الله عن تجربة الدراسة في الأردن وعلاقتها برحلتي التالية إلى ألمانيا، وكيف كانت خياراتي الخاطئة قبل تسع سنوات سببا في حالة التشتت التي أعيشها حاليا. فقرار خاطئ تبني عليه لسنوات قد يؤدي بك لطريق مسدود يضعك أمام خيارات صعبة أحلاها مر.