ثقوب سوداء في الحافلة!

تكتظ الحافلة بالركاب. فضاءات قاتمة تَشغَلُ أنظارهم، تُثقلها، تَتدفُقُ من أحداقِهم وتُمعن اتساعاً.

ستنطلق الحافلة بعد قليل، وسيبدأ كل منا بانتظار موقفه الخاص تأهباً للنزول. وهناك؛ سنرجع إلى مآتمنا، موائدنا، تسابيح امهاتنا، فواتيرنا التي لم تُدفع، وعِشقنا المُنتَظِر بجناحه المُنكسِر.

سنرجع هناك إلى أنصاف أدعيةٍ، أنصاف أحلام، أنصاف "نومات"، انصاف ضَحَكات، أنصاف شِجَارات.

سنرجع إلى فقرنا المُدقع، وسرنا المُخبَّأ، وإثمنا المهين.

حين تقف الحافلة سنعود لنستذكر ماضينا ولنعيش حاضرنا، فنواجه بمزيجهما شخصَنا المُجرد لا حكاياتٍ تُسرد.

يسرع معظم الركاب في إخراج سماعات الهاتف ومشغلات الموسيقى من جيوبهم وحقائبهم.

يضعونها في آذانهم على عجل، فيفارقوننا كوقع الأجل.

لن تدرك آذانهم بعد الآن سوى صخب الموسيقى. يَغُطُّون في أغوار إيقاعها المتصاعد. ويَذَرون كل ما عدا ذلك خارجاً، بعيداً وأبداً في صمت شديد. يَصَمّون آذانهم ثم يفِرّون. يستسلمون لحلقة ضجيج تُثري وجودهم، لكنها في ذات الحين تَسحقهم، تَستصغرهم، تُفقرهم وتُخرسهم.

ها هم قد باتوا عاجزين عن سماع هذا الشاب يُهَمهِم بآهات عميقة، وذلك العامل يهذي بحسابات دقيقة، وهذه العجوز تَزْحَرُ بأنفاس سقيمة وتلك العائلة تتمتم بنقاشات عقيمة. لن يكونوا قادرين على سماع أية اهتزازات إنسانية تقلق تلك الفضاءات السوداء التي تلفهم.

إنهم عاجزون عن سماع هذه المدينة ونداء سمائها.

سحقا! كان على النزول في الموقف السابق!..