أن تكون من سكان القدس معناه أن تعرف الأزمة المرورية الخانقة على أصولها في الصباح، فالجميع يتأهب باكراً للذهاب للعمل أو الجامعة أو المدرسة، ليس لأن المسافة تكون طويلة يالقياس بين مكان السكن و مقر العمل بل لانك غالبا ستمر بنقطة تفتيش.

يبدأ نهاري في تمام الخامسة صباحاً، الذهاب للعمل في توقيت شبه ثابت أعطاني فرصة قيمة للتعرف على عدة أشخاص أصادفهم في كل يوم، السيدة الشقراء الممتلئة التي يبدو عليها التعب و الضجر دائماً، و التي تخيلت أنها تعمل في كسكرتيرة طبية، العمال عند موقف الحافلة، السائق الأربعيني ذي الشعر الأبيض و الهدوء الذي يليق بطبيب متمرس خبير، و من ثم فتاة المدرسة ذي الشعر المتموج و حقيبة الظهر الزرقاء المنقطة تطالع كتاباَ مدرسيا، و وجوه أخرى ألفتها.

اليوم و رغم أن الساعة لم تتعدى السادسة و النصف على ساعة الحافلة الا أنها كانت ممتلئة حتى الباب ما اضطرني أن أقف، و هو أمر لا أمانعة، فنافذة الباص الكبيرة و النظيفة و سلاسته في امتطاء الطريق جعل الأمر ممتعاً كمن ركب أفعوانية في مدينة ملاهي.

توقف الباص عند كل موقف لانزال و اصعاد ركاب جدد على طول الطريق الى المحطة النهائية، و هنا من هذه الدقيقة يبدأ جزئي المفضل من كل هذا النهار، حيث يجب أن أمشي قدراً لا بأس به للمحطة الثانية، هذه أفضل و أجمل فرصة لرؤية القدس على حقيقتها فبرد أكتوبر الصباحي منعش و رائحة أشجار السرو الباسقة يبث الراحة في النفس، تملأ رأتيك من هذا الهواء العليل و تطالع باعة الكعك بالسمسم قد بسطو بضاعتهم في منظر يشد الجائع اليه، أمشي بسرعة بجانب الرصيف دون أن أضيع أفضل فرصة لرؤية السور المهيب و القناطر العتيقة التي تحكي الاف الحكايا. أصل الى المحطة الثانية دون تعب فقد تعودت المشي السريع، حيث تصطف حافلات الجنوب، وسط تصايح السائقين و تحياتهم الصباحية فوق كؤوس القهوة البلاستيكية ينتهي جزئي المفضل من النهار و يبدأ انتظار الحافلة الثانية التي لا تنتظم مواعيدها مهما وعد السائق، استغل فرصة الانتظار بمراقبة الحمام الذي ألف حركة المارة واخذ يتلقط بمناقيره ما تساقط ممن مر بالمحطة، تأخر الباص، مجدداً، و بدأت أصاب بالغضب أحاول أن أنظم مشادة بيني وبين السائق ألومه فيه على تأخيري عن العمل و انتظاري الطويل، أحرجه و يعترف بخطأه و يعد أنه سيلتزم بالموعد بالغد يتبخر غيظي بهدوء عندما تصل الحافلة أخيراً و لا أتفوه بشيء سوى أن أؤكد على السائق أن يلتزم بموعد الانطلاق في الغد التالي، ربما سأصل في الوقت المحدد فالساعة تشير الى السابعة و النصف الان و ربما لن نتأخر على بوابة الجدار، بوابة الجدار العنصري واحدة من بوابات عدة يفتحها الجيش الاسرائيلي في ساعات محددة و أحياناً أخري يتم اغلاقها بلا سبب مما يضطرك الى أن تقود أربعين دقيقة اضافية لتصل الى المكان الذي تريد، السائق يعرف أن تأخير الخمس دقائق قد يترجم الى أربعين دقيقة اضافية ببساطة ان لم بمر بالبوابة قبل اغلاقها و لكنه لا يأبه ربما لانه ليس من سيتأخر بالنهاية بل أنا، أتخيل منظر وجه المديرة و هي تتبرم من تأخري عن الطابور الصباحي، و يأتي الجواب جاهزاً في مخيلتي "ربما كان من الأجدى أن تقومي بتوظيفي في مدرسة أقرب!"

بعد مضي ربع ساعة من سياقة السائق العنيفة استطعت أن أرى دورية الجيش المعتادة و ثلاث جنود متأهبين لايقاف من لا يحلو لهم، مضى الأمر بسلام دون معوقات و أصبحنا ما بعد الجدار.

وصلت أخيرأ.. اكتفت المديرة اليوم بزم شفتيها و رد تحيتي الصباحية ببرود.أتمنى أن لا يتضمن اليوم أي حصة للصف الخامس السيء الخلق، أحتاج الى كأس شاي بالنعنع و بدأ النهار بعد ساعة و نصف من التتقل و المشي والانتظار..