هذا المقال منشور بالأصل على مدونتي، وقد نسختهُ هنا تسهيلاً للقراءة (قُسِمَ المقال إلى جزئين بسبب حد عدد الكلمات، ولك أن تقرأهُ كاملاً على المدونة إن رغبت):

بعد نهاية حرب طروادة، بحسب ما ترويه ملاحم هوميروس، ركبَ الملوك اليونانيّون سفنهم عائدين إلى أوطانهم التي فارقوها أزيد من عشر سنوات، وقد ملأهم التوق للمّ شمل عائلاتهم ولُقَيَى أبنائهم. وقد عاد كلّ هؤلاء الملوك إلى بلادهم واحداً تلو الآخر ما عدا شخصٍ واحدٍ عاثر الحظّ: وهو أوديسيوس بن ليرتيس، الذي تلاقفتهُ أمواج البحر والوحوش والأهوال لعشر سنوات أخرياتٍ حتى بلغَ وطنه، وقد أمست حكايته (وعنوانها “الأوديسة”) القصّة المطروقة في رحلة العودة إلى الوطن. وها أنا أروي رحلتي أو “أوديسَّتي” هُنَا، وعليَّ أن أؤكّد لك أنِّي لم ألقَ فيها ساحرات ولا وحوشاً خرافية ولم تتلاقفني أمواج البحر الهائج قَطّ، ولكنِّي خضتُ نصيبي من المغامرات والصِّعاب، على أنِّي وعلى عكس المسكين أوديسيوس اخترتُ هذه الرحلة الصعبة عن سبق عزمٍ وتصميم، وتركتُ منزلي الدافئ بحماس، وهو فعلٌ لا يخلو بالتأكيد من سذاجة وحماقة كما أعرف الآن.

وظَّبتُ حقائبي واتجهت نحو مطار عمَّان في صباح صيفي حارقٍ قبل خمسة شهور لأقصد مدينة كولونيا الألمانية، والتي نلتُ منحة تبادل طلابي (Erasmus+) للدراسة فيها لفصل الخريف، بدءاً من شهر سبتمبر 2019. وقد زرتُ منذئذ 12 دولة أوروبية (ودولة متوسطية) وجلتُ جبالاً وغابات وكهوفاً وأطلالاً أثرية وتنقلتُ بين زهاء أربعين منزلاً ونزلاً والتقيتُ مئات الأشخاص وتناولتُ مختلف ألوان الطعام وتحدثتُ بأربع لغات. ولعلَّ هذه المغامرة اكتظَّت بأحداث أكثر ممَّا يمكنني اختزاله في تدوينة، ولكني أحاول أن أروي هنا بعضاً من يوميات رحلتي الكبيرة.

^رحلاتي وجولاتي الكبيرة في أنحاء قارة أوروبا منذ بداية عام 2019 وحتى 2020.

الوصول

كنتُ سأسعد جداً لو وصلتُ إلى كولونيا لأجد بساطاً أحمر ممهداً أمامي ومنزلاً جميلاً يحتضنني كي أتفرَّغ للمغامرة والمتعة، ولكني جئتُ “مشرَّداً” إلى مدينة غريبة دون مأوى إلا منزل شباب أشتركُ فيه بغرفة مع سبعة رفاقٍ يؤنسونني (ويرحلُ معظمهم في كلّ صباحٍ ليفسحوا المكان لسبعةٍ آخرين، ربما كي لا أملَّ من طول الرِّفقة). دخلتُ غرفتي اللطيفة بعد غروب الشمس بقليل في 2 أيلول/سبتمبر، أي بعد عيد ميلادي بيوم، وخرجتُ في الليلة نفسها لأرى كاتدرائية كولونيا الشهيرة والمذهلة، وكان يُحلِّق فوقها سربٌ هائلٌ من الخفافيش أضافَ رهبةً آسرةً لمدينتي الجديدة.

البحث عن مأوى

سرعان ما تبلور في حياتي روتين يومي منتظم، فقد كنتُ أستيقظُ متأخراً (في الثانية عشرة ظهراً) فأجدُ أن معظم سكان الغرفة قد رحلوا عنها، إما للتجول في المدينة وهم سُيَّاح مساكين على عكسي، أو ليقصدوا وجهةً جديدة، وأما أنا فلم أكُن متعجلاً: فأمامي وقتٌ وفيرٌ أستكشف فيه المدينة، وأما الآن فلديَّ مهام أخرى تشغلني.

كنتُ أبدأ نهاري بالعمل، إذ إني ملتزمٌ بأربعين ساعة عمل عن بُعْد أسبوعياً مع مؤسسة ويكيميديا (وهي المؤسسة التي تمتلك موقع ويكيبيديا الشهير)، وفي الثالثة ظهراً آخذ استراحة وأتجه إلى سوبرماركت Lidl القريب لأتمتَّع بالتعرف إلى المنتجات الألمانية المُميَّزة، وأهمها بدون شك “الميلك شيك” اللذيذ بنكهاته المتنوّعة، كما أني أشتري مؤونتي الغذائية لليوم، وعادةً ما يكون معظمها من الوجبات المُجمَّدة مثل البيتزا والسباغيتي واللازانيا وما شابهَ ذلك، فكلّ ما عليك هو أن تضعها في الفرن وتنتظر دون فعل أيّ شيء، وهي طريقتي المحبَّبة في إعداد الطعام.

وأما أهمّ وأكأب نشاطاتي اليومية دون شكّ فهو في المساء، بعد الانتهاء من أعمالي وإجراءاتي الجامعية، وهو أن أجلس في بهو الفندق بعد منتصف الليل لأستمع لموسيقى الجاز الهادئة وأبحث في غوغل عن “شقة لطالب في كولونيا”، فأتنقَّل بين مواقع إترنت لأقرأ فيها عن عشرات الشّقق والغرف، ثُمَّ أختار منها حفنةً أكتبُ لها طلباتٍ مُطوَّلة.

وقد تظنّ أن كل ما عليك هو أن تقول: “أريد شقَّة في كولونيا لخمسة شهور” فيصلُكَ عقد إيجار في البريد، لكن هذه البلاد التي تضيقُ فيها مساحات السكنى لها عاداتٌ غريبة، إذ عليك أن تكتبَ طلباً شخصياً لصاحب الشقّة تتحدث فيه عن نفسك وعن اهتماماتك وتقنعهُ بأنك شخصٌ لطيفٌ وراقٍ وجديرٌ بأن يُكرِّمك بأن تعيش في شقّته مقابلَ الكثير من المال.

عائلة ومجتمعات

انغمستُ في حياة كولونيا الاجتماعية بسرعة معقولة، فقد وصلتُ إلى المدينة مساء يوم الإثنين 2 سبتمبر، وتوجَّهتُ بعدها بأربعٍ وعشرين ساعةً إلى أمسية لطيفة لألعاب الرقعة. دعاني إلى هذه المناسبة البهيجة زميلٌ ويكيبيديّ، فمن أروع ما في مجتمع ويكيبيديا (كما أثبتت لي الشهور القادمة) أنه منتشرٌ في العالم أجمَع، فأينما ذهبت لك أن تلتقي أصدقاءً مُقرَّبين. كان صديقي مشغولاً عند وصولي فعرَّفني إلى ثلاثةٍ من رفقه جرَّبتُ معهم لعبة Broom Service، وقد لعبناها باللغة الألمانية مراعاةً لشخصٍ منهم لا يتقنُ الإنكليزية، ولم أفهم شيئاً -لهذا السبب- من قواعد اللعبة، كما أني لم أتفاجأ كثيراً عندما حللتُ في المرتبة الأخيرة.

ذهبتُ في الصباح التالي إلى جامعتي الجديدة لأزورها لأول مرة، واستغرقني الأمر ساعتين كاملتين حتى عثرتُ على المبنى الصحيح. والحقيقةُ أن المسافة بين فندقي والجامعة لا تتعدَّى عشر دقائق سيراً، لكني ارتبكتُ من أمرٍ غير مألوفٍ لي في جامعات هذه البلاد: ففكرتي المعتادة عن “الجامعة” أنها مجموعةٌ من المباني المتجاورة يطوِّقها سياجٌ وبوابة ولها مدخل ومخرج، وأما الجامعات الأوروبية لي فهي مبثوثة في أنحاء المدينة، فقد تخرجُ من إحدى الكُليَّات فتجدُ أمامك مركزاً تجارياً ومجموعة مطاعم، ثُمَّ تمشي إلى محطة القطار فترى كليَّة أخرى في وجهك.

وقد كان لمجيئي إلى كولونيا جانبٌ مهم آخر، فقد صدف أن المدينة التي جئتُ للسكنى فيها تبعد خمسين دقيقة بالقطار عن آخن، وهي مدينةٌ يعيشُ بها أقرباءٌ لي منذ أكثر من ثلاثين عاماً، بل وقد انتقلَ إليها مؤخراً ابن عمي عروة الذي لم ألقه منذ أكثر من عشر سنوات، فقد عاش لعقدٍ من الزمن في دبي، وانتقل إلى ألمانيا قبلي بشهرين فقط. زرتُ ابن عمي في آخن في أول نهاية أسبوع لي بأوروبا بلقاءٍ مؤثّر مليءٍ بمشاعر الحنين والشوق، وجاء ليرافقنا أخوه مالك من بروكسل، وقد فوَّت حافلته إلى آخن مثل عادته وسبَّب لنا قدراً من الدراما، ولكن ذلك لم يُقلِّل من حفاوة اللقاء.

خرجنا معاً إلى غابة آيفل الطبيعية وتجولنا فيها لعدَّة ساعات تمرَّغنا فيها بالوحل وتبلَّلنا بأمطار الخريف وشاهدنا مناظر ساحرة، وفي طريق العودة وصلتني مكالمةٌ هاتفيةٌ من سيدة ألمانية قابلتُها قبل ذلك بيومين لتخبرني أنها ستتكرَّم عليَّ بغرفةٍ للشهور الخمسة القادمة (لقاء الكثير من المال)، وكانت واحدةً من أسعد ثلاث لحظاتٍ في عامي كُلِّه.

دروس بالألمانية

تغيَّر روتيني الحياتي سريعاً، إذ لم أعُد مضطراً للتنقيب بين عروض الشقق والغرف مساءً، لكني كنتُ حبيس غرفتي المشتركة (مع زملائي السبعة المتجدِّدين) لأسبوع آخر حتى أستلم العقد وأُوقِّعه وآخذ مفاتيح غرفتي، وكان عليَّ -في هذه الأثناء- أن أبدأ بحضور دروسي الجامعية. والواقعُ أني جئتُ إلى كولونيا قبل شهر كاملٍ من بدء فصلي الدراسي، غير أنِّي سجلتُ في دورة مجانية للغة الألمانية تسبقُ الفصل، وكان درسي الأول بعد عودتي من آخن بساعتين.

دخلتُ القاعة متأخراً خمسة عشر دقيقة وتحجَّجتُ بأني أضعتُ طريقي لأني جديدٌ على الجامعة، وحظيتُ بنصيبي المُتوقَّع: وهو أن أجلس في المقعد الوحيد الشاغر بالغرفة، بجانبٍ شاب كوريّ في صفّ المقاعد الأخير. وقد أدركتُ سريعاً أن زميلي لا يتقنُ لا الإنكليزية ولا الألمانية، ولهذا لم يكُن يستوعب الكثير ممَّا أقوله أنا ولا أنا ما يقولهُ هو. وقد جئتُ في اليوم التالي فوجدتُ أن كُلَّ الطلاب جلسوا في مقاعدهم نفسها وتركوا لي مقعدي “المعتاد” بجوار صديقي الكوريّ. وأدركتُ حينها أني في مأزق.

المنزل

انتقلتُ بنهاية الأسبوع الأول إلى منزلي الجديد، ويا لهُ من منزلٍ رائعٍ دافئ! فقد حظيتُ فيه باستقلالية كاملة، على عكس معظم غرف الطلاب في أوروبا التي تكثرُ فيها المساحات المشتركة، إذ إنَّ لي حماماً خاصاً وغرفة نومة وغرفة جلوس ومطبخاً حُشِرت كلّها بمعجزةٍ في 11 متراً مربعاً (وهو ما لا يزيدُ عن مساحة غرفةٍ واحدة من غرف منزلي في عمَّان).

ولعلَّ المنزل كان متواضعاً في مرفقاته، وصحيحٌ أنه لم يترك لي مساحةً تذكرُ للمشي، لكنَّه كان في موقع رائع: فهو على مسافة ثلاث دقائق مشياً من نهر الراين الخلاَّب، وعشرين دقيقة من محطّة القطارات الرئيسية في وسط المدينة، وبجانبه شارعٌ مليءٌ بالمطاعم والمتاجر التي تفتحُ لساعاتٍ متأخّرة غير معتادة في أرض الألمان. والحقيقة أني أمضيتُ في فنادق وبيوت شباب أوروبا وقتاً أكثر ممَّا أمضيتهُ في هذه الغرفة، ورغم ذلك كنتُ أحبّها جداً.

قرطاج

أخذتني أول رحلاتي إلى بلدٍ خارج القارة الأوروبية، وهي تونس. فأنا أعملُ مع مؤسسة ويكيميديا في فريق التخطيط الاستراتيجي، وهدف فريقنا هو مساعدة الويكيبيديّين في وضع رؤية نتفق عليها جميعاً (ونعدّ نحن، معشر الويكيبيديّين، زهاء مائة ألف شخص) لتوجّهنا حتى سنة 2030. ويتضمَّن هذا العمل الكثير من اللقاءات والمؤتمرات التي نجتمعُ فيها بأشخاصٍ من مختلف بلاد العالم، ومن أهمّ هذه المؤتمرات لقاءٌ أقيم في تونس بين 20-22 سبتمبر من العام الماضي، وكنتُ أنا من “المدعوّين”، وكان دوري هو أشرف على لجوستيات اللقاء.

التقيتُ في تونس بفريقي في العمل لثاني مرَّة في حياتي، بعد لقاءٍ سابقٍ في السويد، ونحنُ معتادون على أن نعمل عن بعد لأن أعضاء الفريق متبعثرون في أربع قارات. نزلنا في فندق معروف اسمه المرادي جامارث، وقد كان الإشراف على اللجوستيات في هذا الفندق مختلفاً عمَّا توحي نجومه الخمسة. فقد كنتُ أسهر كُلَّ يومٍ حتى الثانية صباحاً لأتصل بالسَّائقين الذين عليهم أن يُقلّوا ضيوفنا من المطار، والذين يحبّون أن يتركوا للواصلين الجُدد ساعةً للتعرّف إلى مرفقات المطار واستكشافه قبل أن يأتوا إلى الفندق، كما أنهم كانوا ينسون أحياناً أيَّ قاعةٍ طلبنا منهم أن يحجزوها لنا، أو يظنّون اليوم ثلاثاء بدلاً من أربعاء.

على أن التجربة كانت أخَّاذة. فقد رأيتُ تونس لأول مرة في حياتي، وزرتُ المدينة مساءً وتجولتُ بأزقّتها الضيقة وحيداً، وهو ما أخبرني صديقي يامن فيما بعد أنه مخاطرةٌ جسيمة، وذهبتُ إلى آثار قرطاج الرائعة التي حلمتُ برؤيتها منذ قرأت عن حروب حنَّبعل والقرطاجيين مع الرومان في طفولتي، كما أني تعلَّمتُ اللهجة التونسية، وتفاجأتُ أني لم أعاني من أي مشكلةٍ بفهم أهل البلد ولا التفاهم معهم بعربيتي العاميَّة، من سائقي التكاسي والباعة وموظفي الفندق وغيرهم.

وكان المؤتمر -من جهةٍ أخرى- كارثةً بكلّ معنى الكلمة. فقد جلبنا ثلاثين ضيفاً من مختلف بلاد العالم لوضع مسودة نهائية للخطة الاستراتيجية ووضعناهم في غرفةٍ واحدة، وانذهلنا أنَّهم لم ينجحوا بتحقيق هذا الهدف المتواضع وحدهم، فتخبَّطنا معاً لثلاثة أيام وتجادلنا في نقاشات عقيمة لا طائل منها، وأمضينا واحدة من الليالي في عشاءٍ على شاطئ البحر المتوسّط، وقد سرتُ بعد العشاء مع رئيسي على الرمال بأقدامنا الحافية وفي وسط ظلمة حالكة، وكان غارقاً حينئذٍ في الإحباط والكآبة وأخذ ينبئني بقُرْب استقالته، وشعرتُ كأنني في نهاية فلم سوداويّ.

وكانت خاتمة الرحلة بعشاءٍ نظَّمتهُ أنا (بصفتي مسؤول اللوجستيات) في مطعمٍ تونسي عريقٍ ببلدة سيدي بوسعيد، وهي مدينة رائعة قريبةٌ من تونس وتشتهر بمنازلها الزرقاء الجميلة. وقد نزلنا من الحافلة التي طلبتُها، بعد أن تأكدتُ من وصولنا إلى المطعم، وسرتُ لدقيقتين وخلفي ثلاثون شخصاً يتبعون خُطَاي، ثُمَّ تملّكني بعض الشك، فأخرجتُ هاتفي وظهر لي أننا نزلنا في مكانٍ بعيدٍ عن وجهتنا.

ورفعتُ عينيَّ إلى رئيسي وقد تملَّكني الذعر، وأدرك هو فوراً ما حصل، فأخبرني أن أترك ما بيدي من حقائب وركضَ نحو الحافلة وركضتُ معه ووقفت الجماهير تُهلِّل لنا من خلفنا وقُرِعَت الطبول وارتفعت الموسيقى الحماسيَّة لأقصاها. ولحسن الحظّ أن الشارع كان ضيقاً بما يكفي كي لا يستطيع السائق إدارة الحافلة بأقلَّ من خمسة عشرة دقيقة، فلحقنا به قبل أن يرحل، واصطحبنا إلى المطعم الصحيح، وكانت النهاية سعيدةً ومؤثّرة!

هانوفر

كانت هانوفر فاتحة رحلاتٍ طويلة، فهي البداية “الحقيقية” لمغامرةٍ هائلةٍ مكتظّة بالتجارب والتحديات والمتاعب، ولهذا خصصتُ لها تدوينة أخرى تروي أحداثها بالتفصيل. مضيتُ في هذه الرحلة بنهاية شهر سبتمبر 2019، وهو الشهر الأول من خمسة شهور قضيتُها في أوروبا، وكان هدفها الفعليُّ هو أن أستفيد من عرضٍ خاصّ تُكلِّف فيه تذكرة الحافلة 5 يورو فقط من كولونيا إلى هانوفر، رغم أن الرحلة طولها ست ساعات (ولا أدري كيف أمكن لتذكرتي أن تُغطّي سعر الوقود أصلاً). وقد رأيتُ في هذه الرحلة مسقط رأس ملوك إنكلترا وجربتُ الطعام الأفغاني لأول مرة ورأيتُ أول عرض أوبرا في حياتي -بل وشاهدتهُ مجاناً-، ومن ثم عدتُ بحافلة في الساعة الثانية فجراً وأنا مُبلَّل وأرتجف برداً.

شهادة B1

بشَّرني زملائي في الجامعة عند عودتي من تونس أن عليَّ المذاكرة للامتحان النهائي لدورة اللغة الألمانية، والواقع أني ذاكرتُ بالذهاب في ليلة الامتحان إلى أمسية لألعاب الرقعة، وذلك لأني أستطيعُ فيها أن أسمع وأتحدث الألمانية طوال المساء. ويتّبع الألمان نظاماً غريباً في التقييم لا أفهمه كثيراً، لكن خلاصة الأمر هي أن الامتحان كان من شطرين: قراءة وسماع، وأعترفُ بأني لم أفهم إلا نصف الأسئلة في الاثنين، وحصلتُ على علامةٍ أنجتني من الرّسوب بفارق درجةٍ واحدة. وهكذا نلتُ شهادة مستوى B1 بالألمانية، رغم أني لم أشعر ولا أشعر بأني أستحقّها.

مضت أيام وبدأ الفصل الدراسي الجديد، وكانت لي ثلاث محاضرات: واحدةٌ في اكتساب النحو (وموضوعها في علم اللغة النفسي، أي عن كيفية اكتساب الأطفال لمهارات اللغة) وثانيةٌ في اللهجات البريطانية (وهي تُحلِّل لهجات كلّ مدينة في بريطانيا بالتفصيل المملّ حقاً وجداً) وثالثةٌ في المسرح (واسمها “من الكتابة إلى الأداء: نظرية وفنّ المسرح”).

وقد ظننتُ أن هذه الأخيرة هي مادةٌ في مسرحيات شكسبير أو ما شابهها، وهو مجالٌ أحبّه جداً، ودخلتُ أول محاضرة متحمساً فوجدتُ نفسي في مسرح حقيقي وقد ارتمى زملائي على الأرض وانهمكوا بأداء حركاتٍ غريبة، وتبيَّن لي أن موضوع المادة هو التمثيل على المسرح.

هامبورغ

خرجتُ إلى هامبورغ في رحلةٍ مدّتها يومان مثل رحلتي إلى هانوفر، وقد قطعتُ مسافةً مماثلة، على أنِّي اخترتُ هذه المرة جهة الشمال عوضاً عن الشرق، ولعلَّها أجملُ مدينة رأيتُها في ألمانيا كُلّها. سألتُ السائقة التي أقلَّتني إذا ما كانت المدينة منشأ شطيرة الهمبرغر اللّذيذة، وأسفتُ من أنَّ تشابه الأسماء بينهما غير دقيق أبداً.

زرتُ في هذه المدينة أفضل ما زرتهُ من متاحف في أوروبا، فأحدها كان في قلب سفينة حقيقية يُحوِّلها أصحابها إلى متحف معظم أيام السنة، فتتجوَّل فيها وتشاهد غرف المحرّكات والآلات العملاقة كما تشاء، وذهبتُ إلى متحف للتاريخ البحري من تسع طوابق (يحتاج لأيَّام لرؤية كلّ ما فيه) وتعلَّمتُ منه معظم تاريخ أوروبا الاستعماري والبحري، وهو موضوع مثيرٌ جداً، وختمتُها بزيارة Miniatur Land، وهو مكانٌ غريبٌ يُمثّل مدناً أوروبية كاملةً بمُجسَّمات وألعابٍ مُصغَّرة، وتزعمُ ويكيبيديا أن فيه 100,000 مجسَّمٍ قطار وسيارة وسفينة و400,000 مجسَّم إنسان.

رحلة جديدة

نمتُ ليلةً واحدةً في منزلي اللطيف بكولونيا، ثُمَّ استيقظتُ وأخذت ملابسي إلى المغسلة ووظَّبتُ أغراضي وخرجتُ إلى محطة القطارات الرئيسية في منتصف الليل، وذلك لأسافر مع ابني عمّي مالك والصديق محمّد مطير من بروكسل إلى البندقية.

قرَّر رفيقاي -بناءً على التزاماتهما- أن يسافرا لثلاث ليالٍ فقط، وأما أنا فقد خططتُ لرحلة هائلة مدّتها أسبوعان، فإيطاليا من أهمِّ البلاد التي عليَّ زيارتها، وفيها كمٌّ هائلٌ من الأماكن التي يمكن للسائح أن يقصدها. حملتُ معي حقيبة ظهر وحقيبة صغيرة بعجلات، وسألتُ سائق الحافلة (التي ستقلّني إلى بروكسل) إن كان بإمكاني أن أحمل الحقيبة معي، فرفضَ قائلاً أنها “كبيرة جداً”. وأنصتُ إليه بكلّ سذاجة فتركتهُ يأخذها.

نزلنا في محطّة بروكسل ووقفتُ أمام مخزن الحقائب أنتظرُ السائق أن يخرج حقيبتي، وقد تملَّكني قلقٌ لطالما تملَّكني في كلّ مرة استقلَّيتُ فيها حافلة سفريَّات، ولم أتمنى قطّ أن يتحول إلى واقع. خرجت الحقائب كلّها ورأيتُ المستودع فارغاً ولم أرَ حقيبتي، وبدأ الذعر يتملَّكني، ورحتُ أسأل السائق المسكين: “أين هي حقيبتي؟ لماذا ليست هنا؟”، وصرتُ أصرخ به وأُندّد وأكيل غضبي، وقد تحمَّلني بأعصابٍ حديدية يشادُ بها لرجل ألماني.

دخلتُ مستودع الحقائب زهاء خمسة عشر مرة وفتشتُ فيه علَّ حقيبتي سقطت في ثقبٍ خفيّ أو اختبأت خلف باب سريّ، ثُمَّ أخذتُ رقم الشركة وانهلتُ عليهم بالمكالمات والشكاوى رغم أنهم لم يفهموا إلا الألمانية (وقد أخرجت كلَّ ما لديَّ من طلاقة كامنةٍ دفينةٍ باللغة في هذه اللحظات الصعبة). واستسلمتُ في النهاية للهزيمة النكراء وتربَّعتُ على حافة الرصيف وأنا أكادُ أفقد الوعي من النعاس والإرهاق الجسدي والنفسي، ثُمَّ اتصلتُ بابن عمي وأخبرته أن يجلب لي شيئاً من ملابسه لآخذها معي.