كلما تقدمت الإنسانية في مدارج العيش، كلما ازدادت مناحي الحياة تطورا، لكن هذا التناسب بين التقدم والرقي، أظهر مع مرور الزمن أنه عكس التوقعات، حيث كان الهدف والمحفز وراء التطوير الدائم هو البحث عن أيسر الطرق لعيش الفرد، وأسهل السبل لتحقيق الرخاء والرفاهية للمجتمعات.

بيد أن الحقيقة نقيض ذلك، إذ بات واضحا أن سيرورة التقدم البشري أفضت إلى التعقيد، وفرضت التركيب والتداخل، وأكثرت من التفاصيل؛ وأحيانا تفاصيل التفاصيل في شؤون الحياة، وزادت من العقبات والمعيقات، التي علينا مواجهتها فرادى وجماعات ودولا.

أعاد هذا الوضع إلى الواجهة نقاشا قديما، لطالما تساجل فيه الفلاسفة والمفكرون والعلماء، وحتى العوام من الناس على حد سواء. وتباين الآراء بخصوصه، ما بين من تلك التي تعده اختيارا ذاتيا يجد فيه الأفراد راحتهم، وتلك التي نزَّلته منزلة المذهب الفلسفي والتوجه الفكري. إنه باختصار موضوع: "البساطة في الحياة".

تكرَّر سؤال "كيف يجب أن نحيا" منذ آلاف السنين، وتردَّدت فكرة سرمدية عن أن الحياة الجيدة هي الحياة البسيطة. فالمفكرون من اليوناني سقراط إلى الهندي بوذا، ومن الأمريكي هنري ثورو حتى ويندل بيري مرورا بلوك فيري خاضوا في الموضوع كل من زاوية نظره، ووفق معطيات سياق عصره.

إن الحقيقة التي يرفضها كثير من البشر هي أن الأمور أبسط مما يتخيلون. ولنا في حياة الأطفال أقوى شاهد على ما نقول، بل إن أحد الحكماء اعتبر وظيفة الأطفال في حياتنا أن يعلمونا البساطة. فالطفل يتكلم متى يريد، وكيفما يريد بلا قيد أو شرط. ولا يعمد لممارسة التأويل للأفعال والأقوال والتصرفات... إنه يعيش اللحظة، يستمتع بالمتعة، ويحزن للحزن بالقدر المناسب بلا أية مبالغة أو إفراط.

من المأثورات عن الأب الروحي للهند قوله: "دعونا نتعلم العيش ببساطة، حتى يعيش الآخرون ببساطة". فالحياة بحسب الكاتب الإيرلندي أوسكار وايلد؛ ليست معقدة، نحن الذين جعلناها معقدة. إن الحياة بسيطة، والشيء الوحيد البسيط، هو أن تفعل الشيء الأفضل. ثم إن أعقد المشاكل سرعان ما تنقلب بمجرد إيجاد الحلول لها، فتبدو بسيطة جدا.

مع توالي هستيريا موجات المابعديات، وانتشار أنماط حياة الاستهلاك والمتعة والخسَّة، لدرجة بات معها الفرد غير مؤمن بالحلول البسيطة، ولا تعجبه النظريات السهلة، ولا تستهويه الحياة الواضحة. فالبحث الدائم عن التعقيد وعن الأسرار أضحى قاعدة تلازمنا، بل إن كثيرا من البشر يصابون بخيبة الأمل عندما يكتشفون أن الحل بسيط جدا. والحاجة لأشياء عملاقة ومتشابكة ومترابطة ومتزاحمة مجرد أوهام. في هذا الخضم نسي الجميع حكمة أن "بساطة الحياة هي علامة على الازدهار الحقيقي".

أخذت فلسفة "minimalism" تنتشر تدريجيا في الأوساط الغربية، بعدما أن وقف الجميع عند حقيقة مفادها أن جوهر الموضوع غير مرتبط بالتخلف أو التقدم؛ أي بتطورات الحياة المعاصرة، بقدر ما بمنهج تعاملنا معه، فالمثل الصيني يقول: "يجب أن نحكم امبراطورية كبيرة بنفس مقدار البساطة التي نقوم بها بطبخ سمكة صغيرة".

وقد نبَّه المفكر والاقتصادي إيرنيست شوماخر مبكرا إلى ذلك حين قال: "يستطيع أي أحمق جعل الأشياء أكثر تعقيدا، وأكثر عنفا. لكن الأمر يتطلب لمسة من العبقرية، وكثير من الشجاعة، للتحرك في الاتجاه المعاكس". وكأنه يقول إن الحياة لا تحلو إلا عندما يعيش الإنسان فطرته، ويمارس حياته الطبيعية على سجيتها، فالبساطة بلا شك أعمق من التعقيد.

حتى في مجال العلوم تبقى البساطة أمرا مطلوبا، فهذا ألبيرت أينشتاين يقول: "ينبغي أن نبسّط كل شيء بقدر الإمكان، ولكن دون أن نفرط في تبسيطه". فحياتنا، وفق هنري تورو؛ تتبدد في التفاصيل، بسط، بسط، بسط. ثم إن قمة الإبداع تكمن في البساطة وليس في التعقيد، فمنتهى الإبداع، وباختصار هو "في القدرة على التبسيط، وليس في التعقيد".

علاقة بالبساطة في مجال العلوم دائما، نشير إلى حادثة تعود لبدايات القرن العشرين بطلها الطالب بجامعة كوبنهاجن نيلس بور (1885-1962)، الذي طرح عليه سؤال شفهي عن كيفية تحديد ارتفاع ناطحة سحاب باستخدام البارومتر؟ فكانت إجابة مستفزة لأستاذ الفيزياء، لدرجة أنه أعطاه صفرا قبل أن ينتهي من بقية الأجوبة، فقد قال في إجابته: "أربط البارومتر بخيط طويل، وأدليه من أعلى الناطحة حتى يمس الأرض، ثم أقيس طول الخيط".

فما كان من الطالب إلا أن سجل تظلما لدى الإدارة، فمنحته الجامعة الفرصة لإعادة الامتحان شفويا، وتكرر السؤال ذاته، فقال: "لدى إجابات كثيرة، ولا أدري أيها أختار"! كانت آخر أجوبته هي التي يرغب الأستاذ الممتحن أن يسمعها "نحسب ارتفاع ناطحة السحاب بواسطة الفرق بين الضغط الجوي على سطح الأرض والضغط الجوي أعلى الناطحة باستخدام البارومتر". وعندنا سئل: لماذا لم تجب هذه الإجابة منذ البداية؟ ردَّ نيلس "لأنكم تعرضون الفيزياء بطريقة معقدة، وجمال العلم في القدرة على تبسيطه".

وجبت الإشارة هنا إلى أن هذا الطالب لم يكن سوى نيلس بور، الدانماركي الوحيد الذي استطاع أن يحوز لاحقا على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1922، إنها العبقرية التي ليست سوى القدرة على تبسيط الأمور المعقدة ليفهمها عموم الناس.

إذا كانت البساطة فنا للعيش، كما يرى البعض، فإن حكمة الفيلسوف أرسطو تبقى خير شعار يمكنهم اتخاده "أترك الحياة كما تترك مأدبة: لا عَطِشاً ولا ثَمِلاً". وإذا كانت مذهبا وفلسفة عند البعض الآخر، فزعيم إفريقيا نيلسون مانديلا جمع أسسه -المذهب- في قوله "البساطة والصدق والإخلاص والكرم والقدرة على خدمة الآخرين؛ صفات في متناول كل نفس، هي الأسس الحقيقية لحياتنا الروحية". وبينما تتردد مقولة الفيلسوف الألماني لودفيغ فيورباخ "الأسرار الأكثر عمقا تسكن الأشياء الطبيعية الأكثر بساطة".

بقلم محمد طيفوري