قبل أن نخوض في مسألة نجاح أو فشل عملة إلكترونية مثل البيتكوين، أو 60 عملة إلكترونية أخرى مثلها يتم تداولها الآن في بورصة العملات الرقمية، أعتقد أننا يجب أن نتناقش قليلاً في ماهية النقود، فربما يساعدنا ذلك على قراءة مستقبل البيتكوين.

بدايةً، لنطرح هذا السؤال: ماذا تملك من الثروة؟

ستكون الإجابة الطبيعية هي: أملك ما مقداره XXX,XXX دولار/جنيه/ريال/درهم/دينار/يورو ...الخ.

السؤال الثاني: لماذا استخدمت هذا المعيار تحديدًا (أقصد العملة) لتحديد مقدار ما تملك من ثروة؟

ببساطة، لأنه المعيار الذي يتعارف عليه الناس الآن لتحديد قيمة الثروة، ويحظى بموثوقية لديهم. ولكن، لنتفق على أن هذا معيار (قياس)، وليس معيار (امتلاك) فعلي للثروة. فثروتك الحقيقية هي السلع والخدمات التي يمكنك استخدامها بشكل مباشر. هي ما تملك من طعام لتأكله، أو ملابس لتلبسها، أو مساكن لتسكن فيها، أو سيارات لتتحرك بها، وهكذا. هذه هي الثروة الحقيقية. أما العملة، فهي مجرد وسيلة لتخزين القيمة، وتسهيل تداولها وليس القيمة في حد ذاتها.

حتى يتضح هذا المفهوم أكثر، نحن بحاجة إلى الحديث قليلاً عن قصة النقود.

إذا عُدنا قليلا إلى الوراء، قبل اختراع النقود الحالية، سنجد أن الناس في البداية كانت تعتمد على نظام المقايضة في تبادل السلع والخدمات. فيأتي الفلاح ليقايض جوال من القمح نظير شاة. والتاجر يقايض مجموعة من الملابس مقابل بقرة. غير أن نظام المقايضة كان به عيوب لم يستطع حلها، مثل مشكلة القيمة (أي ما الذي يجعل قيمة جوال القمح الآن تساوي شاة واحدة بالتحديد وليس اثنتان أو أكثر أو أقل؟)، ومشكلة التوقيت (أي قد تجد أحد الطرفين في هذه العملية لا يرغب في السلعة التي لدى الطرف الآخر. مثل أن يكون مالك الغنم لا يريد قمح الفلاح الآن، أو العكس). لذلك استوجب الأمر البحث عن وسيلة أساسية لتقييم السلع والخدمات.

كان هذا إيذانًا بالانتقال إلى المعادن النفيسة، مثل الذهب والفضة. تلك المعادن التي تُستخدم للحلي أو التزيين. فبسبب ندرتها النسبية، تم اعتمادها كوسيلة مناسبة لحفظ قيمة السلع والخدمات، واستخدامها بدلاً من المقايضة. الآن يمكن للفلاح قبول الذهب مقابل جوال القمح، وتخزين هذا الذهب (كقيمة تبادلية) لحين الحاجة إلى صرفه مرة أخرى مقابل سلع أو خدمات يحتاجها الفلاح.

ولكن قابلت الذهب والفضة مشكلة أخرى، متعلقة بالتخزين. فأصحاب الثروات الضخمة – في هذه الحالة – سيتوجب عليهم توفير أماكن ضخمة وآمنة لحفظ ثرواتهم، من السرقة أو الضياع. وهي مع ذلك معرضة للخطر نظير أي اعتداء من أي شخص يعلم بوجود هذه الكمية من الذهب والفضة في مكان ثابت لفترة طويلة من الزمن. هذا غير صعوبة نقل كمية ضخمة من هذه النقود من مكان إلى آخر في حالة شراء سلعة سعرها مرتفع، هذا غير احتمالية تعرضها لخطورة السرقة أو الضياع أثناء النقل.

وبالطبع، كان استخدام عملات الذهب والفضة تطورًا طبيعيًا وحتميًا، لإيجاد إمكانية تقسيم وتجزئة الثروة، حتى يسهل تداولها وحملها بشكل مصغر بين الناس، فظهرت النقود المعدنية من الذهب والفضة وغيرها من المعادن لتعبر عن القيمة، حتى يمكن الناس شراء السلع والخدمات اللازمة لاحتياجاتهم اليومية.

ثم ظهرت النقود الورقية، وهي – في بدايتها – كانت مجرد بيان يثبت أن حامل هذه الورقة يملك قدرًا معينًا من الثروة، ومن ثم يمكنه تبادل هذه الورقة (المعتمدة) مقابل السلع والخدمات أو الأملاك التي يرغب في امتلاكها. ثم تطورت النقود الورقية أكثر مع ظهور فكرة البنوك، كمستودع من مستودعات حفظ الثروة مقابل صكوك إثبات ملكية هذه النقود يتسلمها المودعون من البنك، وأخيرًا اعتماد النقود الورقية كوسيلة لحفظ وتبادل القيمة من قبل الحكومات.

فأصبحت الحكومات تصدر العملات الورقية بشكل رسمي، كإثبات لحامل هذه الورقة أنه يملك قدرًا معينًا من الثروة نظير القيمة الحقيقية المخفاة خلف هذه الورقة. أي أن قوة هذه الورقة تنبع من ثبات واستقرار الحكومة.فإذا ذهبت هذه الحكومة، لن تساوي هذه الورقة حتى قيمة الحبر الذي طُبِعَت به. (حدث هذا في ألمانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، حيث كان الأطفال في الشوارع يلهون برزم المارك الألماني، فيبنون بها المنازل والأهرامات للهو، وكانت النساء تحرق هذه الرزم للتدفئة).

بالمثل تعتبر البطاقات الإلكترونية بكافة أنواعها (Credit Card, Debit Card, ATM Card, Internet Card) وسيلة جديدة لسهولة حمل ونقل وتداول الأموال، تأخذ قوتها من اعتمادية الجهات المختلفة عليها، سواء جهة مصدرة أو متعاملة بها.

فما علاقة البيتكوين بهذا الأمر؟

قوة البيتكوين أتت من اعتمادية الناس عليها في تحويل ونقل الأموال. فبقدر عدد المتعاملين بعملة البيتكوين على مستوى العالم، تحصل العملة على قوتها (ارتفاعًا، وانخفاضًا) لذلك ترى أن مؤشر هذه العملة يرتفع وينخفض بشكل جنوني، مع ارتفاع/انخفاض نسبة الاعتمادية والإقبال عليها.

تعترض عليها الحكومات، لعدم قدرتها على التحكم بها، وخروجها من الوعاء الضريبي للدولة، كما أنها ثروات في يد الأفراد لا تستطيع الحكومات مراقبتها أو إحصائها، ومن ثم ستظل التقديرات المتعلقة بعملة البيتكوين – وما سواها من عملات إلكترونية في الواقع – محل اهتزاز وعدم تأكد، بالإضافة إلى سهولة استخدامها في أعمال غير مشروعة.

ألمانيا تعتبر هي الدولة الرائدة في الاعتراف بالبيتكوين واعتماده كعملة رسمية في التداول المحلي في مؤسساتها الرسمية (البنوك – الجامعات – الدوائر الحكومية)، وتسعى بشكل غير رسمي لتكون هي الدولة الأولى الراعية للعملات الرقمية في العالم.

هذا بخلاف اعتماد الولايات المتحدة – بعد تردد كبير – للبيتكوين كعملة رسمية، تسعى لضبط التعاملات الجارية بها.

بعد القصة السابقة، نطرح السؤال مرة أخرى: هل البيتكوين هو التطور الطبيعي للنقود أم أنه مجرد فقاعة لن تلبث أن تنفجر؟

ما رأيك أنت؟