إتصل بي صديقي القديم مايك داعيا إياي لحفلة عيد ميلاده الخمسين. هذا يبدو رائعًا. استأجر مايك منزلاً لمدة أسبوع .الكثير من معارفي سيكونوا هناك. أريد الذهاب بشدّة، أنا حقًا أريد الحضور.

“ إذًا هل تلك نعم؟ “

أريد أن أقول نعم، أنا على وشك قبول الدعوة. لكن هناك مشكلة. جزء مني يريد قول لا. جزء مني يريد قضاء هذا الأسبوع بالتّحديد في تأليف كتابي. كنت قد برمجة هذا الأسبوع لكتابي.

في هذه اللحظة بالتحديد، "نعم" التي أردت قولها بَدَت لي أقوى بكثير من " لا " التي أيضا رغبت بقولها. هناك "نعم" في جزء من دماغي، وهو مهيمن على جزء ال" لا " من دماغي، ولوهلة كنت معميًا بتلك الـ نّعم، قائلا في نفسي " نعم وليذهب الباقي إلى الجحيم ".

لكنّي لم أقل نعم. تريّثت لثانية. ما المهم لي هنا ؟ كتابي، أو الحفلة ؟ . من ناحيةٍ أخرى، لماذا أقوم بالكتابة بالمقام الأول؟ للتواصل مع الناس، بالطّبع ! ومامن أفضل للتواصل من حفلة مايك ؟

لكن لم أقل نعم. ليس بعد. جزء ال " لا " من دماغي لا يزال يكافح، ملاكم يتلقّى الضّربات. هل حقًا ستستمتع بالحفلة؟ فكّر في الكتاب ! أنت لن تنهي أبدًا الكتاب إذا أمضيت وقتك في الحفلات !

نعم أم لا - المعضلة الرئيسية

لمعظم حياتي، نعم قد فازت بالسباق. لكن مؤخرًا " لا " قد عادت بقوة. تخبرك قوة " لا " بعدم الاستسلام لجانبك المندفع، بل للبحث في مكان آخر في دماغك عن التّوجيه والإرشاد. هناك أسباب وجيهة لذلك، يتعلق الأمر في الغالب بحقيقة أن العالم قد تغيّر مؤخرًا بسرعة كبيرة. اعتدنا العيش في عالم لا نحتاج فيه لـ " لا " داخلية، لأنّ الـ " لا " كانت حولنا طوال الوقت. الآن نحن نعيش في عالم مصمّم ليقدّم لنا ما نعتقد أننا نريده. الآن " نعم " حولنا في كل مكان.

"نعم" خارجية تستوجب "لا " داخلية

ذُكر مؤخرًا، بأحد مقالات "The Financial Times" بأنّ تلك " لا " هي " نعم " الجديدة، وقد وضعت عدة عناوين لكتب كـ " قوة الـ لا "و "كيف تقول لا بلا ذنب ". هذه كتب شائعة لتطوير الذات. لكنّي كنت أقرأ الكتب من جانب الـ " لا " من المعادلة لبضع سنوات حتى الآن. أهمية قول " لا " لرغباتك و إندفاعاتك أكثر من كونها موضة - إنّها ضرورة .

سنة 2002 فاز عالم النفس السلوكي دانيال كانيمان بجائزة نوبل لقاء عمله "قل لإندفاعاتك". في 2017 ريتشارد ثالر فاز بأخرى . استفاد العشرات من الباحثين والكتّاب من العمل الذي قام به كانيمان وزميله الراحل أموس تفرسكي. لدي رفٌ كامل من كتبهم. بالطبع هناك " [ التفكير بسرعة وببطء ] لكانيمان ، [ سوء التصرف ] لثالر ، [ إختبار المارشميلو ] لوالتر ميشيل ، [ المجتمع المندفع ] لبول روبرتس ، [ لا يقاوم ] لآدم ألتر ، [ أموالك وعقلك ] لجيسون زويغ ، [ إنتظر ] لفرانك بارتنوي ... " ، لهؤلاء من قالو نعم العديد من المرّات ويريدون تصفية ذهنهم من كل هته الفوضى والصّخب.

يقول لنا هؤلاء المؤلفون إنّ لديك مشاعر جريئة. لديك دوافع. لا تقل نعم لهذه الدوافع. فكر ثانيةً. قل لا.

مايك: " إذن هل تلك نعم ؟ ".

أعتقد أنني أود الذهاب إلى حفلة مايك - وأيضًا أن "نعم" تؤثر في الواقع على طريقة تفكيري. خلال السنوات القليلة الماضية ، زرت العديد من مؤتمرات المبيعات التي استضافتها جوردان بلفور. يقول The Wolf of Wall Street أنّه إذا كنت تريد الحصول على نعم ، اطرح على الشّخص بعض الأسئلة التي في صالحه واجعله يتفق معك - هذه العبارات تسمى "الاتفاقيات الصغيرة". قول نعم يجعل من الصعب قول لا.

نعم! أريد أن أقول الكلمة وبشدّة. لكن لم أقلها، ليس بعد.

يقدم عالم النّفس ستيف بيترز أحد أوضح الاستعارات للجزء المندفع من الدّماغ. دعاه بـ " الشمبانزي ". كل منّا لديه شمبانزي داخلي - كما يقول. في الواقع، إنه يتحدّث عن الجهاز الحوفي، مركز العواطف. كلّنا نملك إنسانا بداخلنا أيضًا، فإنسانُك الدّاخلي يتمركز في القشرة الأمام جبهية. الشمبانزي يتّخذ أحكامًا سريعة. هَوَسُهُ بالطعام، الجنس والخطر المحدق. إنّه هناك لِغاية ( يقصد جزء الشمبانزي ). رجوعًا إلى كوننا شمبانزي ، كان على حق معظم الوقت ( جزء الشمبانزي )، يجعلك تقاتل عندما تحتاج للقتال، يجعلك تقتل عندما تحتاج للقتل. لقد كان جشِعًا ، غيورًا ، أنانيًا. ولا يزال.

من ناحية أخرى قشرة الأمام جبهية هي ما تجعلك إنسانًا. يشير بيترز الى أنّ بعض الأشخاص قد يقولون أنه حيث تكون روحك. حيث تسعى للحقيقة، حيث تتقصّى الدّلائل، تجادل بعقلانية وترى العالم بما أسماه بيترز " تدرجات الرمادي ".

أحد أهم الأشياء التي قالها بيترز : الشمبانزي بداخلنا أقوى بكثير من الإنسان بداخلنا. عندما تصل معلومة الى الدماغ فهي تصل الى الشمبانزي أولًا ، الشمبانزي له الأولوية. مما يعني أن كل ما تراه وكل ما تسمعه مؤطّر بدوافعك. عندما ترى شيئّا تريده، "نعم" تأتي أولًا ، "نعم" أكثر حضورًا. " لا " تأتي في المركز الثاني .

شيء واحد قد تلاحظه في هذه المرحلة هو أننا نعيش في عالم مصمّم للشمبانزي الداخلي فينا جميعًا. فالسّياسة للشمبانزي. تويتر للشمبانزي ؛ كليكبايت للشمبانزي. بمفهوم أوسع، الأنترنت للشمبانزي. ليس كلها بالطّبع، و لكن شاهد المدون تيم إيربان وهو يتحدث عن التسويف في Ted Talk ، تبدأ بأفضل عزم وتصميم ولكن من السّهل أن تقع في "حفرة الأرنب".

تحدثت مرة مع خبير التكنولوجيا جارون لانير ،الذي لديه احساس قوي حول ذلك. حفر الأرنب هذه لا تعتمد فقط على رغباتنا وأهوائنا، تم تصميمها لنا من قبل خبراء روبوتات. نحن مثل الفئران في تجربة مصممة لجعلنا نقول نعم. تجربة لا هوادة فيها، لديها موارد غير محدودة تقريبًا طوال الوقت في العالم.

في كتاب المجتمع المندفع كتب بول روبرتس عن رجل يدعى بريت والكر الذي أصبح مدمنًا للعبة World of Warcraft :

" لأربعة أعوام ، حتى حياته الحقيقية قد انهارت، استمتع والكر بكيانه الشّبه مثالي على النت، مع قوة افتراضية لا نهائية ووضع أقرب إلى كونه زعيم مافيا ممزوج مع نجم روك " في الحياة الحقيقية كان والكر : " ضعيف بدنيًا ، فقير ماليًا، وكذلك حياته الإجتماعية، منعزل ، بالكاد يتحمّل الحديث وجهًا لوجه ". فمخترع World of Warcraft قد صمّم منتجًا فعّالًا بشكلٍ لا يصدّق.

كتب روبرتس : "في الظّاهر، قصّة أحدٍ مثل بريت والكر قد تبدو لا علاقة لها بأولئك الذين لا يقضون أيامهم في الغزو في الحروب الإلكترونية " لكن ذلك فقط في الظاهر ، تطرّق روبرتس إلى نقطة مهمة : بقية العالم أقرب إلى لعبة إدمان أكثر مما تتخيّل . ليس فقط نيتفلكس و أمازون والتي سُطِّرَت بخوارزمية "حفرة الأرنب". إنه أكثر من ذلك . إنه كل المجتمع المستهلك. إنّها الطريقة التي نصقل بها حياتنا.

إنّه عالم يتوجه ليكون شمبانزي - أو حسب ما اصطلح عليه النفساني والتر ميشيل "النظام الساخن" الخاص بالإندفاع ، بدلًا من "النظام البارد" الخاص بالتحليل و البحث عن الدّلائل، التفكير فيما هو أفضل للمدى البعيد .أشار دانيال كانيمان إلى " النظام 1 " و "النظام 2 " - رد الفعل الغريزي مقابل أخذ لحظة أو اثنتين للتّفكير في الأمور.

أشار جيسون زويغ إلى "التفكير"و"الاحساس". أظن أن بول روبرتس قد وضع إصبعه على سببٍ ، الكثير من الأشخاص مهتمين به حول هذا الإختلاف.إنه العالم، إنه يتغير. إنه مصمم لذلك الشمبانزي بداخلنا جميعًا.

أجريت مقابلة مع مايك مورهايم وفرانك بيرس مؤسسي لعبة World of Warcraft. يقول مورهايم : "كلّما تقدّمت في العمر، أصبحت مفتونًا بآلية عمل الحواسيب ، كيف ساهم في تطوير كل شيء. وهكذا قررت التوجه نحو الهندسة الكهربائية ، كنت مفتونًا كلّيًا" ، نظر أسفلا تجاه الطاولة ، ثم ارتفع مرة أخرى : "كنت دائمًا مهتمًا بمدى قدرات الأجهزة المختلفة و جعلها تتواصل مع الأجهزة الأخرى ، كل مدخلاتها و مخرجاتها ."

لم يملك مورهايم و بيرس مكتبا .كان لديهم أرض الجامعة بإيرفين في كاليفورنيا. مباني حديثة خلابة و مروج أنيقة. كان مكتب فرانك بيرس مليئا بتماثيل شخصيات اللعبة ( أورك ، وجنيات وبالطبع الإنسان ) . يقول فرانك : " مايك أفضل مني في العلاقات الاجتماعية والتفاعل مع الاشخاص". كنت أحاول معرفة سبب شعبية هاته اللعبة ، لِمَا الملايين من الناس يقضون من 20 إلى 30 ساعة في الأسبوع في لعبها . قام مورهايم و بيرس بالتلاعب بالخوارزميات وجعلوها تتحدث مع بعضها البعض. لقد صقلوا الخوارزميات لأعوام. وأخيرًا وجدوا أفضل نقطة في مخ الإنسان.

في الردهة كانت هناك خريطة العالم الذي ظهر لاحقًا ، لقد كان ميدان بيانات حيث الناس فيه يقولون " نعم " للعبة . في الواقع كانوا يقولوا " نعم " من لوس أنجيلووس ، بوسطن ، كاراكاس ، كانوا يقولون نعم من مدريد وبيجين .

مورهايم و بيرس كانا البداية فقط . هذا ما أتصور الكاتب جارون لانير أراد قوله. هذا ما أراده الكاتب بول روبيرتس.

مايك يقول : " أودك أن تأتي ".

وأنا أيضًا أود القدوم. أستطيع دائمًا كتابة كتابي في وقت آخر. دماغي بدأ في الحسابات . إنّه يقوم بما يسميه علماء النفس السلوكي " خصم - المستقبل ". أردت قول نعم الآن . إذا قلت نعم الآن، سأصبح سعيدا. عندها سأكون قادرا على التطلّع للحفلة. ثم سأذهب الى الحفلة. هذه الكثير من السعادة ! الشمبانزي في رأسي يحسب كل شيء . لكن هناك مشكلة. دماغي يستعمل رياضيات الشمبانزي. رياضيات الشمبانزي ليست رياضيات حقيقية. إنها ما تستخدمه عندما تحتار أيهما تختار السلطة أو البطاطا المقلية. "أنظر الى تلك البطاطا إنها أفضل بعشر مرات ! " تلك رياضيات الشمبانزي !

رياضيات الشمبانزي تقول نعم للحفلة. لكن القشرة الأمام جبهية تعلم أني اذا قلت " لا " الآن ، سأكون أسعد لكن لاحقا وليس الآن . السؤال هو : ماهي تكلفة هذه السعادة المؤجّلة ؟ وكيف تقنع نفسك لقول لا لسعادة الآن ؟

أجريت مقابلة مع فرانك بارتنوي صاحب كتاب " إنتظر " كتاب حول منافع عدم الاستسلام للشمبانزي الداخلي. قبل أن أقابله أرسل لي إيميلا : " نظرًا للإكتضاض التكنولوجي : إيميل، سوشل ميديا، الأخبار على مدار 24 ساعة ، أغلبنا يتفاعل و يقرر بسرعة. نحن جاهزون للاستجابة السريعة للمنبهات السريعة والبارزة ، حتى عندما يكون ذلك في غير صالحنا ". بمعنى آخر ، العالم آخذٌ في التسارع بالنسبة لنا . الأمور تطوّرت لجذب إنتباه الشمبانزي. الأكل سريع! مصمم لأخد الغلوكوز إلى دمنا بأسرع ما يمكن ، السوشل ميديا سريع، إنه يثيرنا و يحفز الشمبانزي فينا . من أجل الازدهار ، يجب أن نتروّى. الجميع يقودهم الشمبانزي .تروّى. إذا انتظرت ، فستفوز.

في إختبار المارشميلو والتر ميشيل أخبرنا عن تجربته الشهيرة بتدحّل المارشميلو والأطفال. وصفها بارتنوي بأنها أكثر تجربة مؤثرة في علم النفس السلوكي الحديث. في التجربة، أجريت في جامعة ستانفورد سنة 1960، تم إعطاء أطفال في الرابعة من العمر خيارًا. وضعوا أمامهم المارشميلو وأخبروهم أنه يمكنهم أكل المارشميلو الآن أو ينتظروا 15 دقيقة ويحصلوا على إثنان. تم ترك الأولاد بمفردهم في غرفة مع المارشميلو. البعض قال نعم . والبعض قال لا طوال 15 دقيقة. تم مراقبة الأولاد على مدى الأعوام . أولئك الذين قالو لا حصلوا على درجات أفضل بالإضافة لكونهم أقل خضوعًا للسلوكات الاندفاعية . ووفقا للإختبار كانوا أكثر حظًا لتعديلها ( أي سلوكاتهم ).

حفلة أم كتاب ؟

كتب ميشيل :"كلما كانت المكافأة أكثر سخونةً و بروزًا كلّما صَعُبَ ترويض التفاعل الإندفاعي وتهدئته " ومن ناحية أخرى، " القوة لا تكمن في المُحفِّز ... بل في كيفية تقديره .وبالطّبع :" القوة تكمن في القشرة الأمام جبهية، والتي إذا فُعِّلَت ستسمح غالبًا بعدد لا نهائي من الطرق بتبريد تلك السخونة والمحفّزات المغرية عن طريق كيف يتم تقديرها "

كما قال فرانك بارتنوي : إنتظر كما ستيف بيترس : "إعطاء الوقت الكافي لتجاوز المعلومات لجزء الشمبانزي . ليس عليك أن تُخطف من قِبَلِ الشمبانزي خاصتك ، يمكنك أن تدع نفسك تشعر بمشاعر الشيمبانزي خاصتك، وانتظرها لتزول، كن عقلانيا . قل لا للمارشميلو حاليا . وربما ستجد نفسك بقطعتي مارشميلو في المستقبل .

أنا حقا يائس للذهاب الى الحفلة، أنا حقًا كذلك. سيكون ذلك ممتعًا. لما لا أذهب لبضعة أيام فقط ؟ لما لا ؟ لكن ذلك رياضيات الشيمبانزي . أستطيع أن أرى ما سيحدث. يجب أن أقوم بالترتيبات، أمتعة، قيادة الى المكان. يجب أن أستبق ذلك بأيام سلفًا. سأكون متحمسًا و متلهفًا. سيذهب كل تركيزي . ثم سيستغرق مني ذلك أيامًا لأهدأ. سأخسر أسبوعا.

الأمر أنّني قلت لمايك : " لا أستطيع ".

ترجمة لمقال : The Guardian