مُخطئٌ من ظنّ السّعادة في القُصورِ وفي الأموال، وفي كُلّ مبتغَى سَهل الوصول سريعِ المنال .. أو في الجاهِ والسّلطانِ والحسبِ والنّسب .. أو في الشهرة والجمال وكثرةِ المُعجبين .. أو في صحّة بدن واقتدارِ بنيَة وفي انعدام الابتلاءِ ودوام العافية ! رُبّما كُل هذه الأشياء قد يجلبُ بعض الغبطةِ والسّرور، لكنّ أثرها لحظيّ زائلٌ بزوالها، مُتوقّف على دَوامها، مُتعثّر بنقصانها ! .. وإلاّ لما سمعنا عن مَشهور ذيِ جمالٍ وحَسب أو ذي سُلطَة ونُفوذ ماتَ مُنتحراً ! ضائقا بالحياةِ قتلَ نفسهُ باحثا عن الرّاحة والهدوء والسّلام الدّاخلي.. ولماَ رأيناَ صحيحاً مُعافَى يشكو على الدّوامِ مُتعباً خاملاً ضجرا.. ولما سمِعنا عن غنيّ تملؤُه العُقدُ النفسيّة ويغزو فُؤادَه الجفاء، وطباعَه الشُحّ والبخل، وباله الحِرص والخوف والوسواس ! ..

إذن فأينَ السّعادةُ الحقيقيّة؟ وكيفَ ومتى تستوطِنُ النّفوس وتشرحُ القلوب..

إنّ السّعادة منبَعها أن تعرف الله، موجِدكَ في هذهِ الدّنيا مِن عدم، أن تعرفَ لماذا خُلقت، ولماذا استَوطنك هذه الأرض، ولماذا بعدَ فترةٍ من نزولِك فيها طالت أو قَصُرت، ستَرحلُ منها فارغاً مِن كُلّ ما امتلأتَ به فيها، مِن خير وشرّ.. ! لتجدَ ثمارَ صنيعٍك في عيشِ الخلود.. ثمّ أن تعرف نفسك، أن تكون أنتَ كما تعرفُك لا شخصاً آخر تصنعهُ عوامل خارجيّة سُرعان ما تُحكم قيدها حول عُنقك فتنفجرَ ضجراً، وإمّا الضّياعُ حيّا أو الهلاكُ إلى الأبد. وحين تعرفُها حقّا وجبَ أن تكونَ أنت من يُسيّرها لا هي من يُسيّرك، لأنّك إن خضعت لتسييرِها أوقعتكَ في شرّ نزواتها الّتي لا تنتهي ..

وكم من القِصص والعِبر في هذه الحياة منذ الأزل فيها من الجَوابِ الشّافي للعليل، والدّليلِ للحائر، والمُؤنسِ للمستوحش، والمُثبّت لأفئدَةِ العارفين.. كالتّي سأتحدّث عنها..

إنّها السّعيدةُ الفارّةُ مِن قصورِ الظلمِ والطّاغوت إلىَ جنّةِ الرّحمن، إلى السّعادةِ المُطلقة!

عاشت في قَصرِ عظيم.. زوجَة ملك طاغية مُتألِّه، يخشاهُ كُلّ النّاس لسطوته وبطشِه، الخدمُ والحشمُ وكُلّ أنواع الزينة والثياب الفاخرة التي تحلم بها كُل امراة، كُلّ ذلك كان مُسخراً لرغباتها وراحتها، ورفاهةِ عيشِها ..

سَمعت نداء الإيمانِ فأبَى قلبُها الرّقيقُ النقيّة فطرتُه، السّليم من كُلّ أدرانِ الحياة إلاّ أن يُلبّي..

كُلّ ذلك الزّخرف الذي كان حولهاَ لَم يُؤمّن لقلبِها السّعادَة، ومَا إنْ أشرقَ قَلبُها بنورِ الإيمانِ حتىَ ولجت أرضَ السّعداء، وارتقَتْ للأتقياء، ولحِقت بركبِ الأنبياء، سَمَت روحُها إذ علِقت بربّ السّماءْ فزهدتْ فيِ مُلك زوجها الفاني، وعزفت عَن كُل ما ذلّل لها من المفاتنِ والمتاع، وطلبَت النعيمَ في دارٍ أبقَى وأجمَل عندَ من أحبته دونَ أن تراه، وصدّقته دونَ أن تسمعه، هُناك حيثُ تمنّت لها بيتاً في الجنّة "ربّ ابنِ لي عِندك بيتاً في الجنّةِ ونجّني من فِرعونَ وعمله"..

لقد أرادت أن تعيش الحياة التي تختارُها هي لِنفسها لا ما يختارهُ لها زوجها أو أيّ أحد سواها.. مُشكلة الكثيرين في البحث عن السّعادة أنّهم يسعون إلى إرضاء غيرهم أكثر من أنفسهم، ويجدون في رضا الناس عنهم -وهو ما لا يحصُل إلاّ نادرا- نشوةً تُشعرهم بلحظة من السّعادة سُرعان ما تزول لتتحوّل إلى صراع داخليّ لا ينتهي إلاّ بإيقاف تلك المسرحيّة ..

ما لبِث زوجها الظلاّمُ أن يعرفَ بارتقائها بالإيمان وتمرّدها على خيار زوجها في إسعادها ، حتّى توعدها بعقاب شديد، لا رجوعَ عنهُ مادامَت ترفُض قُربَه وقصوره وماله وعزّه لتختارَ قُرب اللهِ وحُبّه وجنّتهُ ! وكيفَ لها أن تعودَ إليه وقَد تشرّب قلبها حلاوة الإيمان وروحُها محبّة الرّحمن؟ وعافت نفسُها حياة الأسر في رغبات الآخرين ،حيثُ سعاَدتها وجدَت بعد أن بحثت عنها في القًصور والذهّب والفضّة والحريرِ والمرجان فَلم تجدها !!

جُنَّ زوجها المغرورُ إذ رأى إصرارَهاَ وتمسّكَها بحبيبها الأفضل، فأنزلَ عقابهُ عليها ! أمر جُندهُ بأن يُلقوا عليها بأعظم صخرة وُجدت، فاستقبَلتِ العذاب ضاحِكة مستبشرة، رأتْ بيتهاَ المُزخرفَ البديعَ خلف الصخرة فتوجّهت إليهِ مُسرعَة ووقعتِ الصخرةُ على جسدِ بلا روح، إذ الرّوح ارتقتْ لجنتّها أوّلا..

هَذهِ آسيّة زوجَةُ فرعون.. قُدوة كُلّ مؤمنٍ ومؤمنة، تحدّت الجبروت حينَ وجدت سعادَتها الحقيقيّة فنالتها وحازتِ الشّرف، وفازت فَوزاً عظيماً.