التعليم.. هُناك مُشكلة ما، ولكن أين هيَ؟

التعليم مشكلة عويصة في مجتمعنا العربي، فهناك من يُلقي اللوم على الوزير، المعلّم، الطالب، الأسرة، بل ان أصحاب نظرية المؤامرة يقولوا بأن ضعف التعليم بسبب الدول المؤثّرة والمنظمات المجهولة والبالغة السرية والتي تعمل منذ أيام الدولة العثمانية في قتل تعليمنا ومهاجمتنا حتى تتحكم بنا، ورغم أنها قصّة مؤثرة وشاعرية، الّا أني أرى ان الأمر معقّد أكثر من ذلك.

المقياس العالمي لقياس جودة التعليم هو مؤشّر بيرسون العالمي للمهارات المعرفية و التحصيل التعليمي، الذي يعتمد على ( LCDB ) أو ما يسمّى ببنك بيانات منحنى التعليم، والذي يضم بيانات كثيرة -فهو بنك للمعلومات-، ويضم أحدث نتائج اختبارات بيرلز PIRLS ، وتيمس TIMSS ، وبيزا PISA ، وكذلك بيانات برنامج التقويم الدولي لمهارات البالغين PIAAC.

وكان ترتيب الدول العشر الأولى في مجال التعليم لعام 2014:

1- كوريا الجنوبية. 2- اليابان. 3- سنغافورة. 4- هونغ-كونغ/ الصين. 5- فنلندا. 6- المملكة المتحدة. 7- كندا. 8- هولندا. 9- إيرلندا. 10- بولندا.

دعوني أقول لكم ان التعليم ومن خلال قراءتي لحال التعليم فالدول الخمس الأولى بأنه ليس شيئاً بإمكانه التغير في يوم وليلة، بل هو امر معقّد مركّب متشابك بين النظام التعليمي والمناهج والمعلّمين والمجتمع حيث يعملون كوحدة واحدة لينتج لدينا نظامي تعليمي متكامل..

ولكن من وجهة رأيي أحد أبرز النقاط والاختلافات هي:

{المعلـــــــمين}

قم للمعلم ووفه التبجيلَ ... كاد المعلم ان يكون رسولاً

المعلم هو حجر الأساس في بناء أي نظام تعليمي، ولا يمكن تجاهله او معاملته بأنه مجرد موظف عادي، فنجد ان المعلم يحظى باحترام عالٍ وتقدير كبير من الحكومة والشعب، وهو امرٌ معقد ناجم من سنوات عديدة.

فعلى سبيل المثال في كوريا الجنوبية، فأن المعلم المبتدئ قيمة راتبه تعادل راتب مهندس، يتميز المعلمون هُناك برواتب عالية جدّاً، وفي نفس الوقت يحضون باحترام الشعب، فكيف حدث ذلك؟

النظام التعليمي في كوريا الجنوبية بالغ التعقيد والصعوبة الشديدة، وكون مهنة التعليم تتمتع برواتب عالية فأن أفضل الخريجين وأكثرهم مهارة وتميز يتجهون لقطاع التعليم، ولكن حتّى هؤلاء يتم ترشيحهم وتصفيتهم بحيث ان المقبولين في برنامج تدريب معلمي المدرسة الابتدائية 5% فقط من الطامحين في العمل بهذا المجال، و30% من المرشّحين للتعليم في المدارس الثانوية يتمكنون من العثور على وضائف، لذلك فأن اختيار المعلمين هي مهمة انتقائية جدّاً يتم فيها اختيار نخبة النخبة.

وليس هذا فقط، ففي عام 2010 قامت الحكومة بعمل تقويم شامل بمشاركة الطلاب وأولياء امرهم، والمعلمين الذين حصلوا على تقييم متواضع يحصلون على تدريبات إضافية، واما المعلمين الذين يحصلون على تقييم عالٍ يحصلون على فرص متعددة من بينها اكمال تعليمهم.

ولا يمكننا هُنا الّا ان نرى تقديراً من أولياء الأمور لمهنة المعلم كونها مهنة يتطلب الحصول عليها بذل جهدٍ كبير، ونرى معلمين فوق المستوى الاعتيادي.

وليس تقدير المعلم يتم عن هذه الطريقة، فمثالاً فنلندا حيث يتمتع المعلمون برواتب اعتيادية، لكن المعلم يحظى بمكانة مرموقة فالمجتمع، بالإضافة على ذلك يحصل على حرية كبيرة جداً في اختيار المنهج التعليمي وطريقة التدريس بما يناسب الطلاب.

واليابان كمثال آخر، حيث ان المعلمين لهم عمق كبير متأصل في عمق الحضارة اليابانية، في قصة مؤثرة من التاريخ الياباني، حيث بعد ثورة استعادة عرش ميجي عام 1968، أرسل الثوار الشباب وفوداً من كبار المسؤولين الى العواصم الغربية لإعادة صياغة المعاهدات، ولكنهم تأثروا بالتقدم الغربي، وعلى العموم فأنه بعد التطوير الذي حدث اخذ الساموراي مهنة التعليم على عاتقهم، والساموراي يتمتعون بمكانة رفيعة جدّاً فالمجتمع الياباني في حقيقة مازالت لليوم.

لم تتوقف اليابان عن الأبداع، ففي كل مدرسة يتمتع الطلاب بمعلم يكون معهم في طول مراحلهم الدراسية ويقوم ببناء علاقات شخصية مع الطلاب، وإذا ما خالف الطالب القانون، تقوم السلطات المسؤولة باستدعاء المعلم الاستشاري المسؤول عن الطالب وأعضاء الهيئة التدريسية للاعتذار عن سلوك الطالب.

وفي سنغافورة، حيث المعلم في منهج الكونفوشيوسية لهم مكانة كبيرة.

الحديث يطول عن مكانة المعلمين، بينما نجد في بلداننا تناقضاً عجيب، فأصبحت مهنة التعليم هي من أسوء المهن التي لا يرغب أحد بالحصول عليها، بل أن تحقير مهنة التعليم لا يأتي من جانب الطلاب وأولياء الأمور بل ان وزارة التعليم لدينا كمثال قامت بإلقاء اللوم على المعلم في مشاكل التعليم، إهانة صريحة للمعلمين، الذين فيما سبق كانت حقوقهم معدومة حتى قاموا بأضراب والذي أسيء فهمه من قبل الشعب بأنهم يطلبون المال، ولكن الحكومة لم تتدخل لإيضاح الأمور، لا نقول بأن المعلمين كلهم جيدين، ولكن رغم هذا يجب احترام مكانة المعلم، ومن ثم تقييدهم وإعادة تصفيتهم وتأهليهم، أما ان تقوم وزارة مسؤولة عن التعليم بهدم الحجر الأساس للمعلم، فهي بالأساس تهدم اجيالاً من الشباب الصاعد.

والمشكلة ليست محصورة في بلد ما، ولكن معظم الدول العربية تعاني من هذه المشكلة -حسب معرفتي-، لهذا يجب حلها بشكل مباشر وسريع، وإحدى الحلول تتطلب تدخل قانوني، اذ يجب منع القاء اللوم على المعلم، والسبب ان من خلال قراءتي للمجتمع الذي أعيش فيه فأن أي خطأ يقوم به الطالب او أي ضعف فان الطالب ومعه ولي الأمر مباشرة يلقون باللوم على المعلم بدون وجود أي سبب سوى تقاعس الطالب نفسه.

{التدريب المهني}

هذه النقطة تكلمت عنها سابقاً قبل حتّى ان اعلم ان بقية الدول تقوم بتطبيقها، وحتّى أوضّح هذه النقطة سأذكر مثالاً حقيقياً عليها وهي فنلندا، عندما يصل الطالب لمرحلة الثانوية العليا فأنه يحق له الاختيار بين الالتحاق بمدرسة نظرية او مدرسة مهنية، ومن مجمل الطلاب فإنّ 47% من الطلاب يلتحقون بالمدارس المهنية التي تطلب دواماً كاملاً، وتستمر حوالي 3سنوات. البرامج التي توفرها هذه المدارس هي برامج مهنية متعلقة بسوق العمل، وكل برنامج يتطلب ستة أشهر من التعلم اثناء العمل، إضافة للدراسة النظرية بالطبع. وحتّى الدراسة النظرية 75% منها دراسة مهنية، أمّا ال 25% الباقية تكون في مواد المنهاج الدراسي -مشتركة مع المدارس النظرية.

وحتّى بعد اكمال الدراسة المهنية فمن حق الطالب اكمال الدراسة فالكليات والمعاهد المتعددة الفنون والمواهب، والتي يخرج منها الى سوق العمل بصفته محترف عالي المهارة.

وهذا ما يفتقده نظامنا التعليمي، الذي يعتمد على دراسة نفس الأشياء المتشابهة، والدخول بنفس التخصصات والخروج بشهادات ورقية لا أكثر، فبدون شهادة جامعية لا يمكنك العمل بصورة سليمة، رغم ان سوق العمل أصبح متشبعاً بذوي الشهادات العلمية وأصبح يطلب الخبرة بشكل أساسي، ويشتكي كثير من أصحاب الشهادات العلمية بأن أعمالهم لا تتناسب مع ما درسوه في جامعاتهم، علينا الاعتراف بان سوق العمل محتاج لعمّال ذو كفاءة عالية، وهذا ما لا يوفره النظام التعليمي لدينا.

ومن تجربة شخصية، فإني أجد كثير من الطلاب ومن زملائي يملكون قدرات إبداعية في مجال الميكانيكا على سبيل المثال، ولاكن لا يجدون من يوجههم. كما ان بعضهم يضطر للخروج من الكليات بغرض ان التعليم هناك مجرد تعليم نظري، وبسبب حاجتهم لإعالة ذويهم خاصة مع تردي الأوضاع الاقتصادية، وعدم ضمان الحصول على عمل حتّى بعد التخرج من الكلية. لي زميل درست معه 12سنة فالمدرسة، اضطر لأن يجمع بين دراسته بالكلية والعمل كسائق شاحنة توصيل، يحكي لي عن معاناته في الدمج بينهما وكيف انه حتّى لا يجد الوقت الكافي للنوم وكثيراً ما كان يذهب للكلية من دون نوم مما ساهم في تدني مستواه وهو معرض للطرد، يقول انه لا يستطيع التخلي عن الكلية لأنها وعلى اقل تقدير تساعد على الحصول على وضيفة محترمة، ولا يستطيع ترك العمل كسائق بسبب عدم قدرته على توفير تكاليف الدراسة والمعيشة. قصته ليست منفردة بل هناك الكثير من امثاله.

يثير استغرابي عدم وجود مثل هذه المدارس رغم انها ضرورة ملحة في عصرنا الحالي، اكاد اجن بسببها! كل الدول العالمية توجد بها مثل هذه المدارس، بل هناك دول خصصت مسارات عدّة مهنية معقّدة كمثال سنغافورة.