و الآن اخبرني ما الذي ستفعله لما يأتي الذئب ؟؟

يونس بن عمارة

اللكنة هي مجازٌ شفاف عن علاقات القوة. -ايمان مرسال

لرُبع ساعة وصديقي يشرح لي حول فلم ما لم يتذكر عنوانه ، تبيّن فيما بعد انه سلسلة وليس فِلما .. وفي لحظة من اللحظات فهمت مقصده فقلت له هل فيه ام التنانين الجميلة ولما اجاب بنعم عرفت انه يقصد سلسلة لعبة العروش الشهيرة .

لمدة كبيرة وحتى هذه الايام لما تريد مشاهدة فلم لدى اصدقائي . فان اي فلم لا يملك عنوانا واضحا ليس لنقص في الانجليزية فحسب بل حتى لو وجدت فان الفلم يعبر عنه بـ ( الفلم الذي فيه رجل يفعل كذا ) وهذا ما كان سيكون عنوانا لمقالي هذا لكنني آثارتُ ان اجعل له العنوان المتعلق بالذئب لسبب لغوي ..ما هو ؟ ذلك ان نفس الصديق والعديد من اهل بلدتي الطيبة لهم عادات لغوية غريبة .. وسنرصدها هنا .. وما مهنة الكاتب الا الجلوس في ركن من اركان مقهى الحياة والكتابة عن تفاصيل البشر ..

لما يحدثك صديقي هذا فانه في وسط اي حديث ومهما كان الموضوع فانه يدخل هذا السؤال دون اي سبب فقط للفكاهة أو للمزاح أو لتبديل الجو .. أو لا ادري فعلا لماذا، وهو ( كِيف يجي الذيب وش ديرله ) او ( لما ياتي الذئب ما الذي ستفعله ) والمشكل اني لم اجد جوابا واضحا لهذا السؤال الغرائبي غير اني اخر مرة قلت له ..ساخبره اني اعزب ولم اتزوج بعد . فضحك وقال لي ان الذئب لن يحس بالذنب اذن لما ياكلك .اذن فالسؤال موجه لكم لعلكم تجدون اجابة ما الذي يمكن ان تفعلوه لما يواجهكم الذئب .

طبعا يمكن ان نستقرأ الجملة ..ونحولها و نقوم بتأويلها .. كتاويل ان الذئب هو (الحيرة الوجودية ) التي تعترينا لكوننا موجودين في هذا العالم ونحن نتسائل عن السبب ومواجهتها هي حتمية قائمة لا مفر منها .. والمشكل هو اننا لا نجد الاجابة .او على الاقل انا لا اجد اجابة حتى الآن .

شيء اخر او عادة لغوية اخرى هي اضافات لغوية غريبة تنتشر على الالسنة ويقوم باختراعها اناس لهم حس لغوي رغم اميتهم مثل اضافة ( لاكنّاتي ) بدل لكن .. يعني يحكي لك ثم يحكي ويحكي وبدل ان يقول ( لكن الامر هو كذا) يقول لك ( لاكنّاتي-) والالف والتاء والياء اضافة لغوية فحسب لتنويع اللغة لا محل لها من الاعراب .

وحكاية اخرى هي لما كنا نسير انا وصديقي –صديق اخر – يوما ما استوقفه صديق له ، واراد ان ياخذ رقم الهاتف وكان له هاتفان واضطر لابدال الشريحة ..فلما تكلم قال له (اين حفظت رقمي الاول ) اجابه الصديق ( في الفِكريزم الاولى ) ..تعجبت فعلا انا لان الفكرة لدى اللهجة السوفية تصلح كلمة تطلق على اي شيء .وهذا المبتكر اضاف اليها اللاحقة اللاتينية ISM للتنويع !!

لما يكون بجانبك كتاب ويكون صديقك لا يصل له وتريد ان تقول له هات الكتاب.. لا يقولون لك ذلك .. بل ( هات الفكرة ) … ولما يكون معك في الصف ولا يعجبه المقعد الذي يجلس عليه يقول لك ( ان الفكرة سيئة هنا ) .. ولما يتكلم عن حبيبته يقول لك ان (الفكرة لم تتصل الفكرة فعلت الفكرة جاءت ) وهذا الطالب في التكوين صديق صديقي اضاف اللازمة ايزم –لها .. فبدل ان يقول الفكرة قال الفكريزم .. اضافة الى ان مصطلحاته كلها اضاف لها هذه اللازمة ايزم .. و لا يمكن ان لا تفهمه فحديثه كله واضح رغم انه يدور في لفظة واحدة فقط .

لما اخذ الرقم وذهبنا تحدثت انا وصديقي حول هذا الموضوع واخبرني ان الوغد قد تسبب باصابته بالعدوى بهذه الالفاظ فاحيانا اخبرني انه يرتكب خطيئة ان يضيف الايزم للكلمات العربية في كلامه … اخبرته ان هذه الفكريزم –عفوا الفكرة ! – تدعى MEME في علم التطور الثقافي – الميماء – وهي عبارة عن فكرة يمكن ان تكون معدية . وبالضبط هذه طريقة عدواها (الحديث ) لذا يوجد في قول الحق تعالى “وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون”.

والظاهرة اللغوية الاخرى التي لاحظتها هنا هي التصغير وهي ظاهرة مثيرة فعلا لانتشارها الكبير بين الجيل الكهل في بلدتي . فكل شيء لديهم يجب ان يصغر .. لا يقول لك لدي دار انما (دويرة ) ولا امراة انما (مْرّية ) ولما يود التكلم عن العائلة لا يقول (العائلة ) بل (العويلة ) او (العويل ) ، ولا كرسي انما (كِريرسي ) ولا كراسة وانما (كِريريسة ) ولا ولد انما (وْلِيد) ولا بنت بل (بْنيّة ) وطالما سمعت هذه الجملة، هو انه لما يسأل السوفي عن احد انجب فيقول ( ماذا انجب ) لما يكون ذكرا يقولون دوما ( جاب وْلِيد ) او جاب ( بْنيّة) ولم يحدث ابدا ان اتى سوفي بولد (بكامل قواه اللغوية ) بل وْلِيد مصغر صغير اسم ناقص للكمال اللغوي !

ولأعطي بعض الامثلة الاخرى للتصغير في اللهجة السوفية : سَباط ( حذاء ) سِبيبيط ، باب (بويب ) ، تاقة / نافذة (تويقة ) ، وطبعا ليس الكل يتحدث بالتصغير لكن وجدت اناس يتحدثون 90 بالمئة من كلامهم بالتصغير المطلق ..وهؤلاء يمكن ان اسميهم المبدعين اللغوييين ، مثل صاحب اضافة الايزم تلك ..وهم كثر رغم اني لم اصادف الا القليل ومن اختراعاتهم اللغوية تنتشر الميمات –الافكار القابلة للنقل والتطور – عبر اللغة واللهجة لتطويرها ومرونتها .

و لأختم بالخير : فان هذه الافكار وهي تجول ببالي .. صادفتُ منشورا للمبدعة المترجمة ميادة خليل يقول :

اللغة هي وطني الوحيد. تشيسلاف ميلوش

و كلمة جميلة جدا للشاعرة ايمان مرسال من مقال رائع بعنوان الصوت في غيْر مكانِه

“لا تصبح اللكنة مصدراً للشعور بالعار ولا تجعل صاحبها يتوتر إلا إذا كانت دلالة على وضعيته الأقل من وضعية الأذن التي يتوجه إليها بصوته. ما يحدد الوضعية يكون عادة أكبر من حبل الصوت ونيته، قد تكون علاقة المركز بالأطراف، علاقة المستعمر بلكنة سكان مستعمراته وهم يتحدثون لغته، التعليم بالأمية، المدينة بالريف، الطبقات المحظوظة بالطبقات الأقل حظاً. لا يمكنني أن أتخيل صاحب لكنة اكسفوردية يشعر بالعار وهو يتحدث مع صاحب إحدى لكنات الطبقة العاملة في انجلترا، ولا باريسيّ يتوتر وهو يسمع لكنته جنباً إلى جنب مع لكنة مهاجر من السنغال. اللكنة هي مجاز شفاف عن علاقات القوة.”

وفي الادب العالمي هناك نص من اروع ما يكون لبول اوستر في روايته مدينة الزجاج من ثلاثية نيويورك . و اسمه خطاب بيتر ستلمان اقتطعته من الكتاب لاهميته ووضعته هنا بشكل PDF قابل للتحميل . وتجهزوا لأروع خطاب ادبي مبدع يمكنكم قرائته في روايات بول اوستر الجميلة جدا . خطاب بيتر ستلمان ، و لئن وجدت الوقت والفراغ والقوة ساعمل على دراسة اسميها تشريح خطاب بيتر ستلمان وتفصيصه و التعمق فيه واستخراج كل مكنوناته ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل سبحانه .

رابط المقال :