عادة ما تشكل الندبات التي يحملها الجسم؛ وبعضها يعود الى أيام الطفولة؛ خزان معلومات يذكرنا بأدق تفاصيل لحظات من عمرنا كانت زمكانا لتلك العلامات التي رسخت نفسها في مكان تموقعها لتكون ذاكرة مرئية ملموسة. كلما هممت بتغيير جواربي تراءت لي آثار غرز على الجانب الأيسر من قدم الرجل اليمنى لتخترق أضواء ذاكرتي حلكة أمس ليس بالقريب فتنكشف عورات أسرار تراكمت على جسدها المنهك أطلال ورواسب كادت أمواج النسيان ان تحفر أساساتها وتجرفها الى القعر.

في صيف 1976، كان محمد الصديق شرحبيل يقضي عطلته في مدينة الجديدة والتي حل بها بعد أن أمضى 4 سنوات في فرنسا التي قرر الاستقرار فيها. كان الرجل يجمع بين القوة الجسمانية والشجاعة التي تجعل منه مهابا من أقرانه وملحمة تغذي خيال الصغار. لذلك كنت أتجول في الزقاق لا يهمني تحرش من هم أكبر مني سنا من الأطفال ما دمت قد ايقنت أن باب البيت قد اغلق على وحش جسور اسمه "عمي الصديق" فكنت لا أكف عن التفكير في تلك القوة التي لا يمكن ان يتمتع بها إلا من كان في غفلة من أمه قد زارته عفريتة جنية فسقته من رحيق لبنها لينمو في عروقه جبروت لم يكن لأحد من الخلق ان يؤته إلا "عفريت نفريت". في مملكة خيالي كان العشرات من الصناديد يتساقطون أمام صفعة من يده اليسرى أما اليمنى فكانت قادرة ان ترسل الى الملكوت السرمدي بغلا او حمارا. فتحت باب الغرفة التي كان يستقر فيها ببيتنا فوجدته مستلقيا على ظهره مستمتعا بموسيقى "جون كلود فرانسوا" كان قد جلبها من فرنسا على شكل "تورن ديسك" وهو قرص بلاستيكي يدور باستمرار تحت فرشاة معدنية سحرية تفرز أنغاما عجيبة. كانت ملكاتي العقلية لا تتيح مجرد التفكير في كيفية اشتغال ذلك الكائن السحري العجيب الذي يقذف الى مسام الأذن أنغاما تتمايل لسماعها أجساد وتلين لها قلوب. بينما كانت عيناي الصغيرتان قد تركزتا على علبة تحتوي على مجموعة من الإبر قد أغلقت كل واحدة منها بإحكام على سائل عجيب، امتدت يد "عمي الصديق" الى احدى هذه الابر فقام بكسر أحد طرفيها ثم قلبها في اتجاه كأس أعدها لاستقطاب السائل الذي تحويه لينساب في صمت نحو الكأس بمجرد كسر عنق الطرف الأعلى. كانت جوارحي قد اتحدت مع وجداني وتصاهرت مستكينة لذلك المشهد السحري الذي استطعت من خلاله ان استنبط اسرارا قادتني الى فك شفرات لغز القوة التي يفيض بها جسد عمي الصديق. إنها الابر او كما سماها هو "إبر القوة". على الفراش، شردت افكاري على شاطئ أحلام القوة إذ كنت أرى نفسي اقذف من هم أكبر مني سنا واقوى جسدا جانبا واطرحهم ارضا بعد ان تجمعوا علي لضربي ليتكرر مشهد تواريهم عن الأنظار بمجرد ان يكون نصف جسدي قد صار خارج البيت. كانت ليلة طويلة انتظرت فيها ان يتوغل بياض الصباح في احشاء حلكة الليل فيغادر عمي الصديق نحو قرية بن يفو، ساعتها فقط سيكون لي ان استفرد بقوارير مسحوق القوة واصير "صديقا" ثانيا.

انتظرت توسط الشمس في كبد السماء لأتسلل في صمت الى حجرة عمي الصديق فأفاجأ بكون علبة الإبر فارغة إلا من واحدة يتيمة: "أستطيع ان أكون قويا ولو ليوم واحد" هكذا أومئت الي بنات افكاري. امسكتها بعناية وتسللت نحو سطح المنزل. قمت بدحرجة برميل زيتون فارغ ؛ ثم قمت بتثبيته بمحاذاة جدار بيت الجيران وتسلقته الى ان اعتليته ثم أرسلت يدي الصغيرتين نحو ثقب على الحائط لأستمر في التقدم نحو قمة الحائط. كانت المدينة تتراءى من حيث وفقت لأول مرة بحلتها البيضاء المهترئة ولون الصديد البني الذي كست الرطوبة به كل الأبواب والشرفات ومداخل الحوانيت. كانت الريح الخفيفة التي تتقاذفها أمواج "سيدي الضاوي" القريبة تجعل النسيم اقرب للملوحة بينما تخترق أصوات الباعة في السوق القريب "بوشريط" هدوء الأجواء. كسرت طرف الإبرة وقلبتها في اتجاه فمي الذي ظل مفتوحا لاستقبال "مفعول القوة". نزل السائل الى جوف معدتي فأحسست بشعور فريد وقشعريرة تحرر المارد الذي يسكن جوفي من اغلال الخوف الذي نقشته الأيام وتحذيرات الكبار؛ وجهت نظري الى اسفل فتقزمت المسافة امام إحساس "القوة الخارقة". دونما أدنى تردد، قفزت الى ساحة السطح، وما ان ارتطم جسدي الصغير بترسانته حتى احسست بسخونة لزجة تغسل رجلي اليمنى التي كانت الدماء تتدفق منها بسرعة مرتبكة. أطلقت العنان للصراخ فانتبهت امي لتهرع في عجلة الى السطح. اقتلعت بقايا قنينة مكسورة كانت تقبع في اهمال على جنب صور المنزل. القوة المنشودة تحولت الى ضعف تلاه ألم قوي احدثته وخزات الابر التي كانت تخترق سمك قدمي اليمنى.