إحدى المضحكات المبكيات التي ألفيتها منتشرة في فيس بوك بشكل خاص، هي كمية المنشورات التي تتحدث عن الشغف، وكيف أن هناك دورات تعليمية تعلمك كيف تبحث عن ذلك الشغف المزعوم، وكيف أنك إن وجدته فإن الحياة ستكتسي بلون وردي جميل وتشرق الشمس ربما مرة أخرى وتغرد الطيور من حولك!.

أو، من الناحية الأخرى، فإن بعض تلك المنشورات كان يبدو مثل ضباط الصف في الجيوش الذي يضعون الجنود تحت أقصى الظروف المحتملة لكي يتهيأوا نفسياً وبدنياً للمعارك وساحات الوغى. فتجد تلك المنشورات “وكتب التنمية البشرية كذباً” تشير إليك بحدة في كل جملة منها، هل تستطيع السهر ثمانية وأربعين ساعة على ما تحب؟ هل أنت مستعد نفسياً لقبول الخسائر الكثيرة في طريقك، لأنك على وشك الخسارة كثيراً قبل أن تنجح!!

حسناً هم محقون في ذلك، فقد خسرت بالفعل لأول مرة بشرائك لذلك الكتاب أو بتضييع وقتك في قراءة تلك المنشورات

وفي رأيي فإن أياً من تلك الأمور إنما تعالج قشرة الأمر وتذر أصله، كالطبيب الذي ينكب على الجرح يمسح الدم منه، لكنه لا يفكر في علاج الوريد الذي يتفجر منه ذلك الدم!. إن أصل الأمر هنا ليس الشغف، ولا حتى الهدف، ولا أياً من تلك المسميات التي ما أنزل الله بها من سلطان!.

أعتقد أنه من المناسب الآن أن أمهد الطريق قليلاً بعد أن أريتك كيف أنه لا تصلحه تلك المركبة الناعمة التي يبيعها هؤلاء. فلنفترض أنك وجدت ذلك الشغف، وليكن أنك تحب دراسة الهندسة مثلاً، دعنا نرى أين يذهب بك ذلك الطريق.

لنضرب مثلاً بشاب يدعى فؤاد، ذلك الفؤاد أخبروه أن الشغف هو ذلك المجال الذي يجد متعته فيه ولا يمل منه، وأنه هو ما يجب أن يبحث عنه في حياته، ووافق ذلك علم الهندسة في نظره، فسعى خلفها حتى التحق بالجامعة ثم تخرج منها، ثم ماذا يا فؤاد؟ ثم وظيفة وزوجة بالطبع!.

انظر الآن إلى فؤاد بعد عشر سنين من ذلك الوقت، وقد ضاق ذرعاً بمديره في العمل، وبدأ يكره مجاله الذي كان يوماً كالماء والهواء له، وإن لم يفعل فهو يعود آخر النهار يكاد الملل يقتله!، فينصرف إلى المقهى أو إلى لعب الرياضة أو غير ذلك. ضاع وقتك سدى يا فؤاد!.

هذا في أحسن الأحوال بالطبع إن لم يسهر ليلة في الجامعة ليحدث نفسه بالسبب الذي دفعه لدخول تلك الكلية من الأساس!. ثم يفيق من ذلك مرة أخرى على صوت أولاده، لا لا إنه يحب عمله كثيراً، فهو يذكر تلك الأيام التي قضاها على ذلك المشروع حتى أهمل نفسه، ويعلم الله ما كان سيحدث لولا اهتمام زوجته به وإصلاحها لشأنه!.

إذاً ما السبب يا فؤاد؟ ما الذي أصابك بالملل مما تحب وتهوى؟ لماذا صرت ترفض المشاريع التي ستدفعك إلى المزيد من الإنشغال بها؟ لماذا تدفع نفسك الآن خارج ذلك المجال بعد أن كنت تحبه؟. -افترض معي في كل ذلك أنه التحق بذلك المجال فقط لأنه “شغفه“-.

دعنا من فؤاد الحائر الآن، إن الأمر في حالته وحالتي أنا شخصياً منذ عدة أشهر وحال الكثير من أمثالنا، أننا ننسى الغاية التي نعمل أجلها في ذلك الشغف!، نعم، هي تلك الكلمة التي قرأتها للتو … الغاية.

أنت تعمل في كذا، لماذا؟ لأفعل كذا، ثم؟ لا شئ. إذا هذه غايتك، عندما لا تصل إلى إجابة أخرى فحينها تكون قد وصلت إلى الغاية التي وضعت نفسك في مسارها، سواء قصدت ذلك أو لم تقصد. وإن كانت تلك الغاية أي شئ غير الجنة فأنت في مشكلة حقيقية، فعند هذه النقطة بالذات لا يمكنني إلا وصلك بالجانب الآخر من القصة، وهي أن نسختي أنا من الإجابة عن ذلك السؤال أنني أعمل في كذا أو أدرس كذا من أجل أن أحقق الهدف الفلاني، لماذا؟ لأنني أريد القضاء على المشكلة الفلانية أو تحسين حياة البشر في الشأن الفلاني، .. حسناً لماذا؟ هنا الفيصل، هنا الإجابة الأخيرة التي تحدد أي الطرق نتخذ يا قارئي العزيز.

وما وصلت إليه أنا بعد فترة تخبطت فيها في غياهب طريق غير واضحة نهايته، أن المرء لابد أن يربط حياته إلى محور ثابت لا يتبدل، والدنيا بالطبع لا تثبت على حال، وقد رأيت أن من يدل الناس على الشغف كمن يخبرهم كيف يبحثون عن إبرة في غرفة مظلمة!. لابد أن تنير الغرفة أولاً!!.

وظللت حيناً أنظر حولي مصدراً لذلك النور فلم أهتدي إليه، فقررت أن أخرج إلى دائرة أوسع من الدراسة والعمل وغير ذلك، ماذا أفعل في هذه الدنيا؟!. حسناً، أنا أعمل لكي أصل للجنة وأتجنب النار!، إذا لابد أن تكون هذه هي الغاية!!، وعدت إلى القرءان لأجد الآيات التي ترغب في الجنة وتصورها كغاية يعمل المرء من أجلها:

“فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز!”

“مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ”

“مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ”

“وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين * وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين”

إن ما أبتغيه أنا من كل تلك الأفعال وإن بدت في ظاهرها دنيوية محضة، هو أن أتقرب بها إلى الله بنيتي التي أحاول جهدي أن تكون خالصة لوجهه حين أفعلها، من أجل أن أفوز بالجنة وأنجو من النار، فأنا مشروع أخروي بالنهاية، لا تحدني تلك السنون القليلة التي أقضيها في ذلك الجسد الذي يعود إلى أمه الأرض بعد انتهاء مهمته، تلك الآلة الفانية التي قدر الله لي أن تكون وعائي في هذه الحياة الدنيا.

لكنني بشر على أي حال، أتناسى غايتي مع انشغالي في الدنيا، ألسنا نفعل ذلك كل يوم؟ إذا ً ما الوسيلة التي جعلها الله لعباده في الأرض لكي يذكروا غايتهم دائماً، لكي يذكروا أن غايتهم واحدة، وأن عليهم أن يأخذوا بأنفسهم وبإخوانهم إلى تلك الغاية، فيذكروا الغافل، ويأخذوا على يد الظالم، حسناً، ماذا وضع الله لنا في الأرض يا ترى لنذكر تلك الغاية الواحدة؟

إن الإجابة موجودة في أركان العبادات الشرعية كلها، لكنها بارزة جدا في أحد أركان الصلاة، إنها الكعبة. انظر إلى تلك الألوف المؤلفة من الأنفس، على قلب رجل واحد، في صعيد واحد، إلى رب واحد، في صلاة واحدة، بطقوس واحدة، وبحركات واحدة، متناغمة متناسقة، في نظام بديع، إلى جهة واحدة.

انظر من بعيد، تخيل أنك في تلك السماء الواسعة تنظر إليهم وهم يصلون، كأنهم قطع حديدية تنجذب إلى ذلك القطب الأوحد، إن إسقاط ذلك المثل على حالتنا يكون باستبدال الجنة بالكعبة، هي الغاية التي يريدها كل أحد، سواءاً عمل لها أم لم يعمل.

وإن في ذلك أيضاً لعبرة أخرى، إن كل فرد فيهم يتجه إلى الكعبة من جهة فريدة لا تتكرر مع أي أخ بجواره في نفس صفه أبداً، ألا يخبرك ذلك أن الطريق إلى الجنة ليس له طريق واحد، فليس شرطاً أن نتصدق كلنا في بناء المساجد التي لا يصلي فيها أحد!، ولا أن نفعل كذا أو كذا، ومن يتخذ غير ذلك السبيل فإنه لن يصل!. كلا.

صحيح أن هناك سبل تحيد بالمرء عن الغاية بالفعل، لكنها من القلة بحيث لا تضيق على المرء خياراته، فأي عمل صالح قد يصل بصاحبه للجنة إن خلصت نيته، وأُتيَ بطرقه الشرعية، فشراء بئر رومة لكي ينتفع بها الناس بعد أن ضيقها صاحبها عليهم كانت قربة لسيدنا عثمان ابتغاء رضا الله، بخلاف لو كان اشتراها لمجرد ذكر الناس له أو لكي يكون هو المحتكر الجديد لحاجة الناس.

فحتى في الأعمال الدنيوية المشروعة كالبيع والشراء والصناعات قد تنفع المرء إن أحسن اختيار نيته فيها، وتتحول الصناعات المختلفة كالطب وغيرها إلى علوم تصل الناس بالله!، فذلك الطبيب يزيد إيمانه الله كلما رأى من آياته في الجسد البشري وأجساد الحيوانات. وذلك المهندس الفلاني يزيد إيمانه بالله كلما أوغل في الفيزياء وقوانين الطبيعة والكيمياء وغيرها. وذلك الفلكي يعظم إيمانه بالله وربما يزيد خشوعه في عبادته كلما تذكر مشهد حجم الأرض إلى حجم الكون المنظور!.

وذلك التاجر يحسن بيعه ولا يبخس الناس ولا يغشهم، وهذا المعلم يفعل كذا ولا يسوي كذا … وقس على ذلك ما شئت.

لماذا ترى تلك الفقرات بالأعلى وكأنها تحيد عما ظننت أنك تجده في المقال؟ لأنك لا ترى بالفعل تلك الغاية التي أتحدث عنها!. كما أتناساها أنا في كثير من أوقات غفلتي، كباقي البشر.

أتدري لم نغفل عن غاية وجودنا وسر خلاصنا في هذا الكون؟ لماذا نشعر بالملل والكآبة وانعدام الهدف الذي نعمل من أجله؟ ذلك الشعور الذي انطلقت الأقلام هنا وهناك تتحدث عن علاج آلامه الظاهرة بالرياضة والبحث عن الهوايات الجديدة وتخصيص وقت لممارسة أعمال يدوية أو حرف ومهمات يبدو أنها تدفعك للهرب من واقعك الذي سيدفعك المضي فيه بدون هدف إلى الجنون؟

ذلك أننا نترك عمداً وسيلة علاجنا إلى غيرها ليقيننا أننا لا نشتكي من هذا الجانب، ونظن أن علاجنا قد يكون في شئ مادي ملموس، وربما بسبب البيئة التي نشأنا فيها والتي لم تعودنا الطريق الصحيح للمشفى كلما اشتكينا ذلك الشعور!.

أتعلم أنه، ولأجل ألا تنسى غايتك، جعل الله لك أفعالاً وأقوالاً تلزمها من الفجر حتى تعود إلى فراشك؟ فأنت تسبح بحمده إذا قمت وإذا خرجت من بيتك تبتغي من فضله وإذا دخلت السوق وإذا ركبت سيارتك وإذا اقترب وقت الظهر ثم الصلاة نفسها، وهناك قرءان تتلوه متدبراً آياته لتعمل بمقتضاها في بقية يومك، حتى إذا عدت إلى بيتك لزمت ذكر الدخول للبيت وإحسانك إلى أهلك ابتغاء مرضات الله، ثم بقية الصلوات وتذكير الإمام في الدروس في المسجد، وصدقاتك أثناء النهار، وصلاتك للنوافل وفي جوف الليل …. .

وفي المعاملات في يومك، فإن كل ما تفعله كل يوم من شرائك من عدة متاجر لكي تدخل السرور على قلوب أصحاب الأعمال الصغيرة إلى إعدادك القهوة لزميلك في العمل وإحسانك في نظافتك ونظافة ما حولك، وإماطتك للأذى عن طريق الناس، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر كلما كان الوقت مناسباً لذلك، ودعوتك للناس لطريق الهدى والعبادات بالرفق … كل ذلك إن ربطت نيته بالله وبابتغاء مرضاته، لتحول حالك 180 درجة!.

تخيل أنك تفعل هذا كل يوم!، فأنى تذهل عن غايتك وكيف لك أن تنساها؟ وهي الماثلة أمامك في كل فعل تفعله، لهذا كانت النية أهم من العمل نفسه في الإسلام “إنما الأعمال بالنيات”. فالتصدق بالألوف المؤلفة لا يرقى إلى الله إلا إذا كان خالصاً لوجهه بدون شبهة أو رياء أو مال حرام أو ابتغاء غرض دنيوي.

لكننا نشكو قلوبنا ونحن ربما لا نحافظ على خمس صلوات في أوقاتهن دون النوافل!. فضلاً عن أي عمل آخر، ونملأ أفواهنا تشدقأً أن علاقة المرء بربه هي أمر شخصي لا دخل لأحد فيه!، ألا أخرجوا ذلك لنا من كتاب الله وسنته إن كنتم تعلمون!؟ مالكم!، كيف تحكمون؟ أم لكم كتاب فيه تدرسون؟

إن شريعة الإسلام التي قضت على جماعة المسلمين تذكير آحادها وتنبيههم إذا حادوا عن الطريق إنما هو لصلاحهم كأفراد ولصلاح الجماعة كلها كجسد واحد. وتوجه المسلمين إلى وجهة واحدة أثناء صلاتهم خمس مرات على الأقل في كل يوم وليلة، برغم أنها وجهة حجرية صماء لا تضر ولا تنفع في ذاتها، لهي مذكر لنا أن غايتنا واحدة، مهما اختلفت الطرق الشرعية الجائزة إليها، فإنها غاية واحدة، وهي الجنة.

وما صناعاتنا وأعمالنا إلا معايش تعيننا على البقاء في وضع يضمن لنا العبادة بالشكل الأمثل، فنحن لا نعيش لكي نعمل أو نأكل أو نبني ونعمر!. بل العكس تماماً هو الصحيح، فنحن نأكل ونعمل ونبني ونعمر الأرض ونتعارف بيننا لكي نضمن عبادتنا لله بالشكل الأمثل الذي يوصلنا إلى الغاية التي نريدها جميعاً.

إن المرء إذا نظر لحياته من هذا المنظور الواسع، هان عليه ما يجد من البلاء، فهو يقيسه إلى تلك العوامل الكبيرة، فيحسن الصبر عند الشدة، ويحسن الشكر عند النعمة، ولا يجزع لقضاء الله وقدره، ويأخذ بأسباب الدنيا ثم ينظر إلى فضل الله متوكلاً عليه.

بخلاف أن يحصر نفسه في تلك الحياة الصغيرة الملأى بالشقاء والنصب، ويلهث خلف ملذاتها ويتحسر على ما فاته منها، ويجزع لابتلاء الله له، ويملأ الدنيا صراخاً وعويلاً أن لماذا يا رب؟ لماذا تعذبنا؟ لمذا تأخذ أحبابنا منا؟ لماذا، لماذا؟!

إن الفرق بين هذين المثالين، أن أحدهما غايته قصيرة صغيرة، فإذا وقع انتكس، ولم تقم له قائمة مرة أخرى، ويصاب بنوبات القلب والإكتئاب ويموت حسرة على صفقة راحت أو عزيز رحل!.

وأما الآخر فمطمئن النفس، راضي القلب، شاكر للنعمة بفعله وبأداء حق الله فيها، ومحسن في صبره على البلاء، لأنه يعلم أنه ما وجد في الدنيا إلا ليختبر الله صنيعه في النعمة والضراء، ويعبد الله حق عبادته، فلا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما أوتي!. وإنما أعني ليس بالفرح المطغي ولا الأسى المكفر لصاحبه!.

فأنى لصاحبنا أن يمل من الدنيا أو ينسى غايته وهو يتقلب في رضا ربه بين صبر وشكر حتى يلقاه؟! أعتقد أنه لهذا السبب فإن أمراض الإكتئاب والتوتر والقلق نادراً ما تصيب أصحاب الإيمان الذي ينظرون للدنيا من هذا المنظور الواسع

المصدر : أسامة دمراني ، 2015