(تعليق: هذا الموضوع هو الجزء الثالث من سلسلة من خمس مقالات هدفها الأساسي هو استدرار تفاعل الأعضاء وتقريبهم من ويكيبيديا، لذا -لو كانت لديك أي أسئلة أو تعقيبات- أتمنى أن لا تتردد بإضافتها في تعليق.)

عندما يقدمني شخص أعرفه لواحد من أصدقائه، غالباً ما تبدأ المقدمة بشيء له علاقة بعملي مع ويكيبيديا، وخلال عشرات أو مئات المواقف التي حصلها فيها ذلك، كانت أول إفادة أتلقّاها هي دوماً من نوع: "ويكيبيديا رائعة، ولكن أتعرف ما هي مشكلتها؟ لا يمكنك الوثوق بها يا رجل". وقد كررتُ إجابتي على هذه الجملة عدداً كبيراً جداً من المرات بحيث أي صرت أبدأ بقولها مثل أسطوانة مسجلة، وأظن أني أصبحتُ أتقنها بشكل جيد أخيراً، والتي أرجو أن تكون كفيلةً بإقناعك بأن الموسوعة الحرة التي "يمكن لأي شخص العبث بها" موثوقة بما يكفي لتعتمد عليها في جميع أو معظم الموضوعات التي تبحثُ عنها. والإجابة متعلقة مباشرة بمجتمع الموسوعة وبطريقة تفاعله مع المقالات.

موسوعة موثوقة؟

كما رأينا في المقال السابق، ليس هناك نظام صارم لتسيير العمل في ويكيبيديا، وبالتالي فليست هناك وتيرة ثابتة لمراجعة المقالات وتحقيق ما يقع عليها من تغييرات. فلنفترض أنك حاولت تخريب مقالتين في ويكيبيديا بمحو أول جملة في كلّ منهما واستبدالها بجملة "أنا إمبراطور العالم"، من المحتمل جداً أن يختفي تخريبك في واحدة من المقالتين خلال ساعة واحدة، بينما قد يبقى في الثاني لمدة الشهر. وهذا اعتراف ضمني مني بأن موسوعة ويكيبيديا عرضة للتخريب والعبث، فكيف لك الوثوق بها قطّ؟

ويكيبيديا لا تخترع المعلومات، بل تستعيرها

عليك أن تدرك هنا أن ويكيبيديا هي، أولاً وأخيراً، موسوعية معرفية، وهي تخضع -بالتالي- لقوانين دقيقة جداً. صحيح أن كل شخص بإمكانه تعديل مقالات الموسوعة، وذلك لأنها قائمة على اجتذاب المساهمات والإضافات من المتطوعين، إلا أن ذلك لا يعني أبداً أن كل ما يضاف إلى ويكيبيديا يبقى عليها.

كل من لديه اطلاع على أسلوب عمل الموسوعات والأعمال الأكاديمية يدرك أنها، حتى عندما يكتبها أشخاص خبراء يعملون في مجالهم منذ عشرات السنين، فليس للمؤلفين أن يخترعوا المحتوى والمعلومات من أذهانهم ولا يستشهدوا بها من خبرتهم ومعرفتهم الشخصية، بل يبحثون ويقرؤون في المصادر الموثوقة المعترف بها ويلخّصون ما فيها ليصل للقارئ بوضوح وسلاسة. وهذا ما تفعله ويكيبيديا تماماً، فهي لا تخترع المعلومة، بل تستعيرها من مصدرها. ومن المشترط أن يكون هذا مصدراً موثوقاً، أي معترفاً به أكاديمياً، وليس مجرد منتدى أو شخص مشهور يتحدث على شبكة اجتماعية. كما من الضروري أن يكون مصدراً محايداً، أي غير ممول أو مدار من جهات ذات شبهة.

لا شك بأنك تلاحظ -أثناء قرائتك لمقالات ويكيبيديا- الأرقام الزرقاء الصغيرة بين الأقواس المربعة التي تجدها بين الجملة والأخرى، ولو حاولت الضغط عليها بدافع الفضول، سوف تهبط إلى نهاية الصفحة إلى قائمة طويلة من أسماء الكتب والمجلات والمواقع الإلكترونية بالخط الصغير، والتي لا يحب أحد أن يتكلف أحد النظر إليها. بحسب القوانين النظرية لويكيبيديا، يجب أن تكون كل معلومة في كل مقالة مرفقة بمصدر من هذا النوع. وهذا القانون ليس مطبقاً -بالطبع- على جميع المقالات، ولذلك فإنك لست مضطراً أبداً للوثوق بأي مقالة لم ينطبق عليها.

الهدف من وجود المصادر في ويكيبيديا ليس أن مظهرها جيد، بل لأنها تساعد على التأكد من المعلومة. لو صادفت معلومة تظن أنها خاطئة أو يساورك الشك حيالها، فإن مسؤوليتك الشخصية هي أن تتحقق المصدر الذي أرفق بها، ولو لم تجد المعلومة في المصدر فمن حقّ ويكيبيديا عليك أن تساعد بإزالة المعلومة الخاطئة. وأما لو لم تجد مصدراً من الأساسي فلست مضطراً إلى الوثوق بالمعلومة ولا إلى قراءتها. الأمر بهذه البساطة.

*خمسة ملايين عين أفضل من عين واحدة

وجود المصادر مسألة بديهية، ولكن من المحتمل -كما أسلفنا- أن يكون هناك خطأ أو تزييف في المصادر، فما هو الحل وقتها؟ بالواقع، لا تكمن نقطة القوة الرئيسية لويكيبيديا بأنها تستشهد بالمصادر، فمعظم مواقع الإنترنت المحترمة تقوم بذلك، إلا أن قدرة ويكيبيديا الخارقة تكمن بقدرها على تصحيح الذات.

تدفع المجلات الأكاديمية المرموقة عشرات آلاف الدولارات لتحصل على أربعة أو خمسة أو عشرة أشخاص متخصّصين -بأفضل الأحوال- ليراجعوا الأبحاث والمقالات المدرجة فيها، وذلك حفاظاً على موثوقيتها وسمعتها. وأما ويكيبيديا، المتوفرة مجاناً للجميع، فإن ثمة خمسة ملايين شخص في كل ساعة يساعدون على تدقيق محتواها. وقد تقول أن هؤلاء كلهم أشخاص غير مؤهلين لتدقيق موسوعة، أو أنهم محض قراء، ولكن من بينهم القراء ومن بينهم المتطوعين والويكيبيديين. وليس جميع الويكيبيديين غير مؤهلين، فالخبراء والباحثون الأكاديميون المتألقون يستخدمون ويكيبيديا يومياً مثلهم مثل غيرهم، وهم يساعدون في جعلها أكثر موثوقية بمعونة من الآلاف غيرهم.

تستقطب ويكيبيديا جميع فئات الناس، ومن المتوقع من معظم هؤلاء الناس (أو الكثير منهم) أن يقرؤوا مقالات قريبة من مجالات علمهم واختصاصهم، وليس من الصعب عليهم -لذلك- أن يلاحظوا وجود خطأ أو عدم دقة في واحدة من المقالات بين الحين والآخر. وقد يتكاسل أول شخص وأول خمسة أشخاص يلاحظون هذا الخطأ، وكذلك أول مائة شخص، عن المبادرة لإصلاحه، أو ربما لا يعرفون كيفية إصلاحه أصلاً، ولكن القوة المذهلة لويكيبيديا هي أنها لا تهتم: فعدد الزوار كبير جداً، لدرجة أن الشخص القادر على تصليح الخطأ سيأتي عاجلاً وليس آجلاً.

صحيح أن مجتمع ويكيبيديا مكون من سبعين ألف متطوع، إلا أن هؤلاء لا يحتكرون القدرة على إصلاح مقالات الموسوعة وتحسينها، بل ثمة مئات ملايين الزوار القادرين على ذلك. تتلقى ويكيبيديا شهرياً 15 مليار زيارة،[1] أي واحدة عن كل شخصين في العالم، ولو نجمت كل عشرة آلاف زيارة عن إصلاح خطأ واحد فقط، فإن ذلك يساوي 1.5 مليون خطأ شهرياً.

توازن وجهات النظر

صحيح أن جمهور ويكيبيديا العملاق يوفر فرصاً كثيرة لتدقيق المحتوى ومراجعته، إلا أن وظيفته لا تقتصر على ذلك فقط، بل من أهم ميزاته هي أنه يجعل المقالات -بدرجة أو بأخرى- متوازنة ومتكيفة مع جميع وجهات النظر. وبالنسبة لموسوعة معرفية تغطي جميع موضوعات العالم، من تاريخ وسياسة وعلوم وأديان، فإن هذه ميزة ضرورية جداً.

تستشهد جميع مقالات ويكيبيديا بالمصادر الموثوقة، وهذا يعني أن جميع معلوماتها (أو المرفقة منها مع المصادر على الأقل) جيدة تماماً، ولكن كتاب هذه المقالات قد يتحيزون في اختيار مصادر محدّدة دون غيرها، وفي إغفال معلومات من المقال بصورة متعمدة ليعكس وجهة نظرهم. وتكثر هذه الحالات في المقالات السياسية والدينية، خصوصاً عندما تناقش موضوعات طارئة تظهر على التلفاز وقنوات الأخبار. وحل الموسوعة لهذه المشكلة، مرة أخرى، هو في جمهورها المتنوع.

يحق للجميع استخدام ويكيبيديا والاستفادة منها، ويحق لجميعهم -كذلك- أن يشاركوا بمناقشة محتواها وتحسينه، وبالتالي فإن المسؤولية تقع على عاتقهم لتعكس مقالات الموسوعة وجهة نظرهم. يتكون مجتمع ويكيبيديا العربية، مثلاً، من جميع متحدثي العربية، ومجتمع ويكيبيديا الإنكليزية من معظم الفئات العرقية واللغوية في العالم. وثمة مشكلات في بعض هذه الحالات، وهي عدم وجود تمثيل كاف لجميع الأطياف في إحدى نسخ ويكيبيديا. مثلاً، من المتوقع أن مقالة عن الحرب الكورية الصينية على النسخة الكورية من ويكيبيديا ستكون متحيزة لجانب كوريا، بينما سوف تكون المقالة نفسها في النسخة الصينية من الموسوعة متحيز لصالح الصين.

وفي هذه الحالة يصبح من العصي على ويكيبيديا أن تقدم وجهة نظر محايدة تماماً، لأن المسؤولية في الحفاظ على الحياد تقع على عاتق المجتمع، ولو اختار المجتمع أن يكون متحيزاً (بما فيه القراء والزوار وليس المتطوعين فحسب) فإن ما من سبيل لإيقافه. ولو كان هذا الأمر يقلقك، فإن من حقك أن لا تثق بويكيبيديا في مثل هذه الموضوعات الحساسة، ومن حقك كذلك أن لا تثق بقراءة هذه الموضوعات في أي مصدر آخر على الإنترنت ولا في غيره، لأن الكاتب أو المتحدث أو المؤلف فيها سيكون -دوماً- متحيزاً نحو طرف من الأطراف دوناً عن غيره.

يظل المورد الجوهري لويكيبيديا ومصدر نجاحها وازدهارها هو -أولاً وأخيراً- في مجتمعها البناء التطوعي التوّاق لنشر العلم والمعرفة، والذي يحفظ حياديتها وموثوقيتها وجودتها. ولهذا فإني أرغب بدعوتك، إذا كنت صبوراً بما يكفي لقراءة هذه السلسلة من المقالات حتى الآن، إلى الانضمام إلينا لمشاركتنا في نشر المعرفة وتغيير العالم إلى الأفضل. وهذا ما أرغب بتخصيص مقالتي القادمة والأخيرة لمساعدتك على تحقيقه. وأتطلع لأن تقبل دعوتي أو تفكر بها، فقد يكون أثرها -عليك وعلى غيرك- كبيراً جداً.

المصادر

[1] "Page Views for Wikipedia, Both sites, Normalized". stats.wikimedia.org. اطلع عليه بتاريخ 28 يناير 2019. الرابط:

https://stats.wikimedia.org...