الإنسان ذلك الكائن!!

جاء في الآية 14 من سورة لقمان:"... أنْ اشكر لي ولوالديكَ إليَّ المصير"، فوجود الإنسان نعمة عظيمة يُشكر خالقها ويُشكر من كان واسطة في تحققها. والملاحظ أنّ أغلبيّة الناس لا تدرك أهميّة وجود الإنسان ومركزيته في هذا الوجود. ويؤدّي الجهل بالقيمة العظيمة للإنسان إلى الاستهتار به والتفريط بحقوقه. وفي الوقت الذي يدرك فيه الإنسان أهميّة وجوده ومركزيته في الخلق ستختلف نظرته إلى نفسه وإلى الآخرين، وسينعكس ذلك بعمق على أدائه وسلوكه في الحياة. ونحن هنا بصدد تسليط الأضواء على مكانة الإنسان ومركزيته في الوجود كما جاء في القرآن الكريم.

قبل خلق الإنسان هُيّئت الأرض لاستقبال هذا المخلوق المُكرّم، بل لقد سُخّرت السموات والأرض من أجله، انظر الآية 20 من سورة لقمان:" ألم تروا أنّ الله سخّر لكم ما في السموات وما في الأرض..."، وانظر الآية 13 من سورة الجاثية:" وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون"، فكل هذا الخلق العظيم، الذي يفوق في عظمته قدرتنا على التصوّر، قد خُلق من أجل هذا القادم الذي يجهل قدره ومكانته! وعندما أصبح هذا الوجود العظيم جاهزاً لاستقبال الإنسان أُخبِرت الملائكة الكرام بأنّ الخليفة قادم، انظر الآية 30 من سورة البقرة:" وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة..."، وعندما ظهر أنّ الملائكة لم تستشعر عظمة وجلال هذا المخلوق تمّت المبارزة التاريخيّة والتي أظهرت تفوّق الإنسان من خلال قدرته العقليّة، وقابليته وقدرته على التعلّم.

وطالما أنّ هذا المخلوق المفضّل عظيم القدر قد وجد، فقد آن الأوان أن تعترف المخلوقات، وعلى رأسها الملائكة والجنّ، بمكانته ومركزيته وجلال قدره وفوقيّته، فكان الأمر من الخالق سبحانه:"...اسجدوا لآدم.."، فسجدت الملائكة وأبى إبليس، الذي كان من الجنّ. ويبدو أنّه أدرك أنّ الجنّ قد فقدت المكانة العظيمة التي كانت تطمح إليها قبل خلق هذا الكائن، وجادل في أحقيّة الإنسان، جاء في الآية 12 من سورة الأعراف:"... قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين". وهذه حجّة غير مقبولة، لأنّه يرفض الأمر الألهي، فالله هو الذي خلق وهو الذي يختار ويجتبي بعلمه وحكمته وإرادته المطلقة. ولكنّ هذا الرفض من إبليس يشير إلى أنّه يعلم حقيقة وعظمة وجلال ما فُضّل به آدم، مما جعله يشطّ ويقع فيما وقع فيه من معصية.

وكانت الخلافة في الأرض، ولأجلٍ مسمّى، ولحكمةٍ يريدها الخالق عز وجل. وستنتهي هذه الخلافة، فتأتي المرحلة الثانية والأخيرة (الآخرة) ليقوم الإنسان من أجل ممارسة وظيفته الحقيقيّة، والتي هي أعظم من أن يدركها العقل البشري المرهون الآن لقوانين الحياة الدنيا، ويبدو أنّ إبليس قد أدركها – ولو بقدر - فكان منه ما كان. وإذا كان نظام السماوات والأرض قد سخّر للإنسان للقيام بوظيفته الدنيوية المؤقّتة، فقد آن الأوان أن يُغيّر هذا النظام ويُستبْدل ليلائم الوظيفة الجديدة الدائمة غير المؤقّتة، انظر الآية 48 من سورة إبراهيم:" يوم تُبدّلُ الأرضُ غيرَ الأرضِ والسماواتُ..."، والآيات القرآنيّة التي تتحدث عن اختلال النظام الكوني عند قيامة الإنسان كثيرة.

أما يوم الحساب والفصل فعظيم، كيف لا، وهو يتعلق بكائن عظيم وهب العقل والاختيار ونفخ فيه من السر الربّاني ما نُفخ. وبعد الفصل بين الناس يكون الرضا عن الذي نجح وأفلح وتحققت فيه حكمة الوجود. ويكون في المقابل الغضب على من تدلّت به شهوته ولم يرتفع به عقله، ولم يكن يدرك عظمة نعمة العقل والاختيار، وفرّط في الفرصة العظيمة التي مُنحت له، ليكون في عالم السعادة اللانهائي وهو يقوم بتلك الوظيفة الجليلة التي خُلق من أجلها. جاء في الآيتين 22،23 من سورة المطففين:" إنّ الأبرار لفي نعيم، على الأرائك ينظرون"، وفي الآية 35:" على الأرائك ينظرون". والسؤال هنا: ينظرون إلى أم ينظرون في؟ فإذا كانوا ينظرون في، فإنّ ذلك يعنى أنّهم أصحاب قرار، فمثلهم كمثل ملوك الدنيا يجلسون في عروشهم ينظرون في الأمور ثمّ يَبتّون في المسائل. جاء في صحيح الجامع للألباني:" سأل موسى ربه فقال: يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما يدخل أهل الجنّة الجنّة فيقال له: ادخل الجنّة، فيقول: أي ربّ كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيتُ رب، فيقول: لك مثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيتُ رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله...". فإذا كان هذا هو ملك أدنى الناس منزلة فكيف بمُلك جميع أهل الجنة؟! ألا يشير هذا إلى احتمال أن يكون للبشر سلطة كونيّة على أرجاء الكون الهائل وما فيه من كائنات ذات وظائف أدنى وتكون مسخّرة للإنسان ورهن إشارته. جاء في الآية 55 من سورة يس:" إنّ أصحاب الجنّة اليوم في شُغل فاكهون"، فإذا كان هناك شغل فهو شغل المُنعّمين، وإذا كان هناك وظيفة ففيها المتعة، لا كدّ ولا تعب ولا همّ ولا نصب... ففي الأمر إذن غموض سببه قصور العقل البشري عن إدراك حقائق الآخرة، كيف لا، وهو لا يزال وبعد آلاف السنين، يجهل حقائق الدنيا، بل ولا يحيط إلا ببعض ظواهرها.

جاء في الآية 21 من سورة الإسراء:" انظر كيف فضّلنا بعضهم على بعض وللآخرةُ أكبرُ درجات وأكبرُ تفضيلاً"، والفضل هو الزيادة، فإذا كانت الزيادة في الدنيا على مستوى القدرات والطاقات والعطاء هي زيادة تكامليّة من أجل وجود حضاري دنيوي كمقدمة لعالم الآخرة، فما عسى أن تكون انعكاسات التفاضل في عالم الآخرة!! وإذا كان ربّ العالمين وخالق الأكوان الهائلة يتّخذ من البشر أخلاء:"... واتخذ الله إبراهيمَ خليلاً "(النساء:125)، فما عسى أن يكون شأن المقربين من البشر يوم القيامة!!

هذا هو الإنسان وهذه مكانته في القرآن وفي الإسلام؛ فهو كائن مُكرَّم مُفضّل على الكائنات المخلوقة، شأنه عظيم وخَطبه جليل، مسؤول ومحاسب يثاب أو يعاقب. وُجد في هذه الدنيا لحكمة ويوجد في الآخرة لحكمة. أمّا المدارس الماديّة فترى أنّ الإنسان كائنٌ حيّ وُجِد صدفة، لا يتميّز على باقي الكائنات إلا بالعقل الذي هو انعكاس المادّة في الدماغ. فهو إذن ابن الصدفة ووليد المادّة. أما قِيمهُ ومبادئهُ فمن اختراعه، كما يخترع اللباس يلبسه متى شاء ويخلعه متى شاء. وهذا كما ترى في غاية الخطورة لأنّه بمثل هذه الفلسفة يفقد كلّ شيء معناه وتصبح العبثيّة هي الأكثر منطقيّة، وتصبح الحياة لعبة قذرة، كما قال أرنست همنجواي قبل انتحاره. وتصبح الوجودية أكثر الفلسفات صِدقيّة ومنطقيّة، حيث ترى أن لا شيء له معنى، وأنّ الانتحار هو غاية إمكانات الإنسان.

عندما يرضى المادّي لنفسه أن يهبط إلى هذا المستوى الحيواني، فعليه أن يعلم أنّ لذلك انعكاسات خطيرة، منها على سبيل المثال؛ لو قام أحد بقتله والاعتداء على كرامته وماله وعرضه من غير ما سبب، فليقل لنا هل في ذلك ما يتعارض مع القيم والمبادئ؟! فإذا قال نعم، فليقل لنا أيّة قيم وأيّة مبادئ، ومن الذي اخترعها ومن الذي يلزم الأقوياء بها؟! ما الذي يمنعنا أن ننساق مع شهواتنا إلى أقصى مدى متخطّين كل الحواجز والحدود، هل في ذلك من بأس، ولماذا لا؟! تموت أكثر البشريّة وتشقى ويعيش الرئيس الأمريكي بوش ورامسفيلد وتشني، هل هناك من بأس، ولماذا لا؟! ستالين يقتل عشرة ملايين من سكان الاتحاد السوفييتي، ويقتل لمجرد الشك، لماذا لا، ولماذا لا يريح نفسه من الشكوك بالقتل والاستعباد؟! الأمريكان البيض يقتلون 125 مليوناً من الهنود الحمر، كما تُقتَل الصراصير والبراغيث والذباب، ما المانع؟! الرجل يستغل ضعف المرأة وجمالها إلى أقصى حدود، ما المانع، أليس ذلك ألذ؟! ولماذا لا يكون القول الفصل لموازين القوى والجمال والصحّة والذكاء والحنكة والدهاء؟! ثمّ قل لماذا الحياة ولماذا الكدّ والتعب، أليس الموت عودة منطقيّة عن هذه المصادفة الورطة المسماة الحياة...؟! بل إنني أرى أنّ الملحد الذكي لا يمشي على الأرض، لأنّه انتحر منذ زمن بعيد، فهو أذكى من أن ينساق لمصادفة فيها التعب والمعاناة والألم، ثمّ هي بعد ذلك تنتهي بالموت.

أكثر ما يضحكك عجباً أولئك الملاحدة والماديّون الذين يتشدّقون بقيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، ويؤسسون ذلك كلّه على أساس من إيمان مادّي قائم على فرضيّة الصدفة. وعندما يعجزون عن اقناعك بمسوّغات الالتزام الإنسانيّ يقومون باستعارة القيم الدينيّة مستغلين عدم انتباهك إلى هذه المفارقات العجيبة... إذا أدركت ما نرمي إليه تبيّنت أنّ المسألة الإيمانيّة هي المسألة الأولى والأساس في حياة البشر، وأنّ ما سواها يتفرّع عنها، من هنا كان علم التوحيد هو أشرف العلوم على الاطلاق.

بقلم: الشيخ بسام جرار