كتب د.محمد عمارة دراسة وتوثيق لكتاب الإسلام وأصول الحكم بعد نصف قرن تقريبا من صدور الكتاب، لكي يطبق مبدأ الإنصاف في الرأي بعد أن خمدت الحرب التي جرت بسبب الكتاب و بهدف عدم تأثر الرأي بالمجريات السياسية آنذاك، فما هو كتاب الإسلام وأصول الحكم؟ ولماذا أثار الجدل؟ وما ملخص ما جاء في مجمل حديثه؟ دعونا نبدأ.

الظروف السياسية للكتاب [1]

أحدث الكتاب أثناء صدوره في 1925 جدلا كبيرًا في مصر والعالم العربي آنذاك كان سببه أولا أن موضوع الخلافة هو موضوع الساعة لدى العرب خاصة في مصر، لأن تلك الحقبة تشهد نهاية حكم الدولة العثمانية عام 1924، وبه تنتهي الخلافة الإسلامية لأول مرة، وعندما يأتي كتاب ويقول أن الخلافة نظام غريب عن الإسلام، فطبيعة الحال تجعل الكتاب مثيرا للجدل. والأحداث كثيرة حول هذا الموضوع فأولها مؤتمر ومجلة مخصصين لهذا الأخير، وإنتشار فتاوى أن المسلمين آثمون لأن صفة الإسلام "الخلافة" ذهبت.

والسبب الآخر هو أن الكتاب كان موجها ضد عرش الملك فؤاد الأول (فترة حكمه 1917 - 1936)، الذي كانت بوادر الاستبداد والطغيان تظهر عليه، والكثير من المواضع في الكتاب تؤكد أنه جاء ضد القصر، لذلك مادامت الحرب ضد الملك فيجب أن يرد الملك بطريقته ليحمي ملكه، فشن حربا مخفية على الكتاب مما جعل هذه الحرب تزيد الجدل أكثر حول الكتاب، كل هذا من أجل المصالح الخاصة والمطامع من أجل خلافة المسلمين وتسلم مقاليدها.

المشاركون في المعركة

صفوف الضد

وجاء ضد الكتاب حزب الاتحاد الذي صنعه القصر من أجل مناهضته وكانت آراء الحزب تحررية فكانت تتعارض كثيرا مع حزب الأحرار الدستوريين، وهدف الاتحاد هو محاربة زعامة سعد زغلول باشا الذي اعتقدوا أنه ينوي استبدال الملكية بالجمهورية.

وأيضا كان في صفوف الضد هيئة كبار العلماء ومنهم الشيخ محمد رشيد رضا وعلماء الأزهر، والملاحظ أن آرائهم من غير المعقول أن تكون صدرت من علماء الإسلام، فكان مؤكد أنهم مدفوعون من جهة ما لأنهم لا ينتهجون الأسلوب الفكري في الرد بل أسلوب تشويه صورة الكاتب والكتاب، وهناك من علماء الأزهر القليل ممن عارض هذا الاتجاه وانتهج الاعتزال عن هذه الفتنة لتجنب وجع الرأس.

وكانت أفضل دراسة فكرية هي كتاب "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، الذي لم يخلو هو الآخر من الانحياز للملك والدفاع عنه، لكنه الأفضل "آنذاك" من حيث تفنيد بعض آرائه فكريا.

وبعد إقناع هيئة كبار العلماء أن هذا الكتاب عمل مشين، عقدت محاكمة كاتبه علي عبد الرازق بسبع تهم مختلفة، وقال الكاتب بعدم اعتباره هذه الهيئة التأديبية هيئة قانونية، بل لأن لديه الفضل للتتلمذ على بعض أعضائها لذلك كان وفيا لهم وعرض دفاعه عن نفسه، ورد على التهم السبع، لكن كلامه لم يقبل. وجرد من لقب العالم ومن وظيفته كقاضٍ، ومنع استلام أي وظيفة كانت دينية أو غير دينية بإجماع 24 شخصا من الهيئة.

صفوف المع

أما عن صفوف المع فكان هناك تيارات فكرية مناهضة لحرية الرأي والبحث، فكتبت مجلة الهلال والمقتطف ووافق هذا التيار الليبرالي مؤيدون من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، في تونس كمثال بجريدة الصواب.ولا ننسى من صفوف المع أيضا أغلبية المنضمين إلى حزب الوفد.

أما التيار الذي حمل عبئ المناهضة هو حزب الأحرار الدستوريين رغم ازدواجية مصالحه وأفكاره، فيدافع عن حرية الفكر والرأي عندما يكون متعلقا بالمفكرين، والعكس تماما مع الشعب والجمهور. فالمدرسة القائمة عليها الحزب هي مدرسة الإمام محمد عبده الذي مبدأه الإصلاح الديني لتصبح آراء علي عبد الرازق امتدادا متطورًا لآراء الإمام.

أما الاحتلال الانجليزي فكان رأيه متناقضا فسابقا كان مؤيدا بشكل خفي لحزب الأحرار الدستوريين، لكن بعد نشوب هذه المعركة لم يتدخل فيها وترك الأمور تسير لوحدها لأنها ترى صعود الملك فؤاد يخدم مصالحها، وعندما زالت الظروف السياسية أرجعت هيئة كبار العلماء علي عبد الرازق إلى زمرة العلماء وألغت حكمها السابق مما سهل الأمر على الاحتلال لتبرير موقفها وإزالة الحرج أمام أصحابهم القدم.

ما بعد المعركة

سبب هذا الجدل نتائجا إيجابية تحسب للكتاب، فقد أزال الائتلاف الوزاري بين الأحزاب المذكورة آنفا بسبب تضارب الآراء حول الكتاب، وأثر الكتاب على التاريخ بحيث قبر حلم الملك فؤاد بتلقي منصب الخلافة ، وأيضا جعل الذين كانوا مع القصر يلتزمون بالصمت وبعضهم يصححون مواقفهم مثل ما ذكرنا سابقا حول هيئة كبار العلماء، أما الأثر السلبي الوحيد فهو للأسف كان على المؤلف فقد فقدنا منه إمكانات ثقافية كانت ستنفع الأمة لو لم يبدأ هذه المعركة التي سببت عزوفا عن التأليف إلى مماته.

نقد د.محمد عمارة للكتاب

قدم د.محمد عمارة ملاحظات خلال قرائته للكتاب، فيرى أن الكاتب يتناقض في تقييم التجربة الإسلامية في عهد الرسول، فأحيانا يقول أن عهد الرسول غير مرتبط بحكم أو سياسة وإنما بدين فقط ويقول في مواضع أخرى أن سلطان الرسول أقوى من سلطان الملوك والسلاطين..ونفس التناقض كان في تقييمها في ما بعد عهد الرسول، ويرجع الدكتور أن السبب هو عدم تتبعه للمنهج العلمي التاريخي في كتابه.

ويرى أيضا أن الكاتب يستشهد بأدلة لا توافق آرائه، حيث يفسرها كما يراها سطحيا ويؤكد بها آرائه، كأدلة من القرآن الكريم وأدلة من الكتب التاريخية والأقوال المأثورة. وأخيرا أن الكاتب لا يبرز الجانب المشرق من الفكر الإسلامي الذي يمثل الروح الحقيقية للإسلام كما مثلها المعتزلة.

ثم بعد النقد يقدم الدكتور وثائق مذكورة سابقا للاستزادة والثوثيق التاريخي، مثل مذكرة علي عبد الرازق عند المحاكمة، ومجريات المحاكمة نفسها، ومقالات الكاتب ردا على الانتقادات، وكل ما يرتبط بما ذكر آنفا.

الخلافة تعريفًا [2]

الخلافة عند المسلمين هي رئاسة عامة لشؤون المسلمين نيابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجب أن يطاع من طرف المسلمين إن تمت مبايعة من يتسلم هذه الخلافة وتكون بيده أمور الأمة، والخلافة مقيدة بأمور الدين والشريعة ولا يجوز تعديها وتجاوز حدودها.

تطورت الخلافة إلى خكم ملكي في عهد ما بعد الخلفاء الراشدين، التي تميزت بالعزة القدسية وتقديس الملك ورفع مكانته عن البشر وأنه يستمد سلطانه من سلطان الله تعالى.

الخلافة شرعا

الخلافة واجب شرعي إذا تركه المسلمون يعتبرون آثمين، وذلك لإجماع الصحابة والتابعين وذلك للأهداف التي تأتي من الخلافة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ويقول الكاتب أنه لا وجود لدليل في القرآن والسنة يوجب الخلافة، ويرجع ذلك للإجماع الذي جرى بين المسلمين لأول مرة عند مبايعة أبي بكر وجدير بالذكر أن الكاتب يشكك في هذا الإجماع ويقول أن هناك من لم يوافق أبي بكر على مبايعته.

الخلافة اجتماعا

حجة من يتبع الخلافة في هذا العصر هو تواتر الإجماع الذي جرى في عهد أبو بكر بعد وفاة الرسول، ولا مشكلة للكاتب مع الإجماع، وزعم الكاتب ضعف الحركة العلمية لدى العرب في مجال العلوم السياسية وذكر ولعهم باليونان وفلسفتهم وعلمهم وانكبابهم على الاهتمام به وربط ذلك بجهالتهم بالسياسة ومبادئها .

الخلافة لم ترتكز على عقد البيعة بل قامت على القوة المادية من حماية عسكرية ولعل الشك صعب في هذا الأمر بالنسبة للخلفاء الثلاث الأوائل لكن بالنسبة لعلي ومعاوية فيتبين أنهم اعتلوا الحكم بالسيف وحدته وقد يلاحظ أن هذه القوة هي دعامة الخلافة لا تكون ظاهرة محسوسة.

وهذه القوة مدمجة مع الحب البالغ للخلافة والغيرة الشديدة على الحكم، تساوي العسف والاستبداد وهذا ما نشهده في استباحة دم الحسين بن علي كمثال، فحماية الحكم والملك هي الأولوية الأولى للخليفة.

أما عن الإجماع، فهو لم يتحقق في مواضع تاريخية، فلا يثبت أن هناك إجماعا صريحا من كل بيعة كانت من طرف كل السكان آنذاك، لذلك يمكننا أن نقول أنه إجماع غير حقيقي بل حجة مشوهة تقدم كل مرة، كما حدث مع يزيد بن معاوية ولنقل منذ بداية الدولة الأموية إلى يومنا هذا لم نشهد إجماعا حقيقيا. هنا تتبقى الحجة الأخيرة الأهون وهي الأهداف فالخلافة هي لإقامة شريعة الله تعالى وصلاح الأمة، وهل حقا هاذين الإثنين يتوقفان على ما يسمى بالخلافة؟ وكانت هذه الأخيرة ينبوع شر على المسلمين فواقعنا المحسوس يغنينا عن هذه الخلافة.

ثم إن مشينا في التاريخ نرى أن الخلافة هوت عن بغداد وبقي الإسلام دون خلافة ثلاث سنين والتي لم تتوقف فيها شعائر الدين بل بقيت ولم يكن الإسلام مرتبطا بالخلافة في هذه الحالة، إلى حين إنشاء بيت خلافة في مصر و إلى أن أخذتها الدولة العثمانية وانتهت على يدها.

الحكومة والإسلام

يعتبر الكاتب القضاء تاريخًا مبهمًا، فالرسول كان يفض النزاعات ويقضي بينها، لكن عن تنظيمه للقضاء فهو غامض، مما يجعلنا نبحث عن الحكومة الإسلامية ونظامها وهل الرسول ملك أو رئيس دولة؟ والرأي العام يقول نعم (صلعم) أسس دولة سياسية كان هو سيدها، وكانت هناك مظاهر تؤكد ذلك ولعل أول مظهر هو الغزو وتوسيع أراضيه والجهاد، ومظهر آخر وهو الاهتمام بالمال وتدبيره ولا شك أنه عمل حكومي والكاتب يرى من البعيد أن يعتبر هذا العمل الحكومي بعيدا عن الرسالة.

ولكن إذا كانت هناك دولة فعلية للرسول (صلعم) فلماذا لم يهتم بالقضاء كما ذكر سابقا ولماذا ترك الأمور مبهمة حول الحكومة النبوية؟ وهناك من قال أن أركان الحكومة حاليا لم تكن واجبة الحدوث آنذاك لكي تسمى الحكومة حكومة. وهناك من ذهب إلى أن الرسول كان غير متكلف، بسيطا متواضعا مع الناس، ويكره الرياء، فإن ما يبدو إبهاما في الحكومة النبوية هو العفوية والبساطة النبوية عينها.

وهناك من يقول أن الرسول أصلا لم يؤسس دولة ولم يدعو إلى ملك، بل كانت مهمته تبليغ الرسالة ومن هذه المهمة جرى التوهم أن الرسول بنى دولة، ولا ينكر أحد أن الإسلام وحدة دينية وهذه الوحدة هي التي أدت إلى افتراضات أنها دولة ثم جلب الكاتب من القرآن والسنة ما يدعم هذه الحجة التي يؤيدها والتي ألف الكتاب من أجلها، حجة أن الرسول ليس بمؤسس دولة وهي من الأدلة التي تكلم عنها د.محمد عمارة في نقده أعلاه.

ما بعد الزعامة الدينية للرسول

يزعم الكاتب أن بعد موت الرسول (صلعم)، انتهت الرسالة وانتهت الزعامة الدينية بموته، لذلك الزعامة التي تأتي بعد زعامة الرسول هي زعامة لادينية/مدنية/سياسية، وأذن الخلفاء بعد ذلك بتسميتهم خلفاء للرسول وذهب بعضهم لتسميتهم خلفاء لله بما أنهم خلفاء للرسول، واعتبر الكاتب حروب الردة التي شنها أبو بكر أنها حروب سياسية وليست دينية .

وروج السلاطين بعد أبي بكر لقب خليفة رسول الله لحماية عروشهم وملكهم، وهذا المفهوم الجديد من الخلافة هو مفهوم لا علاقة له بالدين وما أتى به الرسول وما هو إلا لأهداف سياسية محضة ومصالح خاصة، وهو لا يمت للإسلام بصلة، وهنا يتحقق مراد الكاتب بأن الخلافة نظام غريب عن الإسلام.


[1] تلخيص لدراسة د.محمد عمارة لكتاب "الإسلام وأصول الحكم".

[2] تلخيص لكتاب علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم".

بعض التواريخ مأخوذة من بعض المقالات في ويكيبيديا.

التلخيص لا يعبر بالضرورة عن رأي ملخصه.