إذا كانت هذه هي المرة الأولى التي تسمع فيها مصطلح "الشدة المستنصرية"، فهي باختصار حقبة تعتبر من أبشع الحقب التي مرت في تاريخ مصر، وربما حتى هذه اللحظة مازلت لا أصدق أن هذا الأمر حدث يومًا ما في البلد التي أعيش فيها.

في ظل حكم المستنصر بالله (420 – 487ه) وبالتحديد في عام 475ه انخفض منسوب مياه النيل، ولم يفض بالشكل الذي يكفل الزراعة لمدة سبعة أعوام كاملة، مما تسبب في بوار الأرض، وهلاك الزرع، واشتداد الجوع على الناس، حتى أكلوا كل ما يمكن أكله من المواشي والأغنام.

في هذه الشدة، ارتفعت الأسعار بشكل رهيب، حتى أن امرأة باعت عقد لها قيمته ألف دينار مقابل القليل من الدقيق، وسرقوه الناس منها وهي عائدة إلى بيتها، فلم يبق معها إلا حفنة صنعت منها رغيفًا واحدًا، وصعدت على سطح دارها تصرخ: "يا أهل القاهرة ادعوا لمولانا المستنصر بالله الذي أسعد الله الناس في أيامه وأعاد عليهم بركات حسن نظره حتى تقومت على هذه القرصة بألف دينار"

لم يكن هلاك الزرع وحده هو السبب، وإنما اشترك معه الفساد السياسي والاقتصادي والأمني ليصنع من مصر فوضى حقيقية.

فالمستنصر وُلِّيَ الحكم وهو بعض رضيع ابن ثمان شهور، بوصاية أمه التي كانت تتحكم تحكمًا فعليًا في إدارة شئون البلاد، فنشأ المستنصر على ولاية أمه، ويبدو أنه لم يستطع التعامل معها، فزادت سطوتها في البلاد، حتى أن الوزراء كان يتم تعيينهم وعزلهم من قبلها، وكانت تدير البلاد بطريقة سيئة للغاية حتى أنها كانت تعين الوزير وتعزله في أسبوع، وأحيانًا في يوم واحد.

على المستوى الأمني حدثت صراعات كثيرة بين الجنود، حيث كان يتكون الجيش الفاطمي من الجنود الأتراك والذين تحالفوا مع البربر، وطردوا الجنود السودانيين إلى الصعيد. غضب السودانيون وعاثوا في الصعيد فسادًا، وخرّبوا قنوات الري، ففسدت الزراعة أكثر، بينما تشاجر الأتراك مع البربر، فتحولت مصر إلى ساحة دموية للجنود المكلفين بحمايتها.

وكما هي العادة، زاد جشع التجار مع الأزمة، وارتفعت الأسعار بشكل جنوني (كما ذكرنا في قصة المرأة) وبدأ الناس بأكل مالا يؤكل لحمه من الدواب مثل الخيول والبغال والحمير، بل وامتد الأمر إلى أكل القطط والكلاب الضالة في الشوارع.

هل هناك ما هو أشد؟

زار وزير الخليفة أحد الأحياء على بغلة للتحقيق في حادث، فعاد ولم يجد بغلته. سرقها الناس وأكلوها. تعرف الوزير على سارقي البغلة، فأمر بصلبهم. في الصباح لم يجد الناس من أجسادهم إلا العظام .. نعم .. تحول المصريون إلى أكلة لحوم البشر.

اشتد الفزع في القاهرة، وأصبح من المحظور الخروج وحدك ليلاً فقد لا تعود، وكان هناك زقاق مشهور سماه الناس "زقاق القتل" من كثرة حوادث الاختطاف والقتل التي كانت تتم فيه، فقد كان الناس يعلقون الأفخاخ والخطاطيف لاصطياد المارة، وقتلهم وأكل لحومهم.

انفراج الأزمة وانتهاء الشدة المستنصرية

لم تنفك الأزمة إلا على يد الوزير بدر الدين الجمالي الذي استغاث به المستنصر بالله، فاشترط عليه أن يأتي برجاله وأن تكون سلطته شاملة، فوافق المستنصر بالله.

كان الجمالي وزيرًا قويًا ذكيًا، فرض سلطانه بالقوة على الجنود المتناحرة، وأقصاهم عن المحروسة، وأصلح ما أفسده الجنود السودانيون من قنوات الري، وتزامن ذلك مع ارتفاع منسوب النيل، فعادت الزراعة، وأصلح الناس أراضيهم مرة أخرى، وأمر الجمالي أن تكون عوائد الأراضي الزارعية بالكامل للفلاحين خلال السنوات الثلاث الأولى بعد الأزمة، حتى تنتعش أحوالهم مرة أخرى، ثم يبدأ الجباية من السنة الرابعة.

خلّد المصريون جميل بدر الدين الجمالي، بإطلاقهم اسمه على واحد من أشهر أحياء مصر القديمة وهو حي (الجمّالية).

نعود إلى سؤالنا :)

السؤال فلسفي بحت .. غرضه محاولة استشفاف ردود الفعل البشرية تجاه الأزمات. ربما يكون من الصعب تحديد رد الفعل المناسب إزاء أزمة لم تحدث بعد، ولكن أنا متأكد أنه سيكون لديك تصور مبدئي عما يمكن أن تفعله إذا تعرضت بلادك لمثل هذه الأزمة.

قد تكون تاجرًا، ضابطًا (رجل أمن)، حاكمًا، أو حتى مواطنًا عاديًا .. أيًا كان وضعك، أو تصورك عن وضعك في المستقبل، فالنقاش مفتوح لك. لاحظ أن هناك مدن الآن تتعرض لما حدث في الشدة المستنصرية، وإن كان هذا يحدث بدرجات متفاوتة، ولكن مازالت الأزمة قائمة. ولا ندري ما يحمله لنا الغد من أحداث، فهل استعددت لها؟

كيف ستكون تصرفاتك إذا تعرضت بلادك لشدة مثل الشدة المستنصرية؟