اسأل هذا السؤال بعد رؤية واحد من أعز أصدقائي يترك دينه بالكلية، ويتخذ الإلحاد، وإنكار وجود الله منهجًا له. قال لي ذات مرة أنه ليس ملحدًا ولكنه من (اللاأدرية) أي جعل قضية الإيمان لديه Suspend. أعرف مضمون الكلمة، ولكن النتيجة بالنسبة لي كانت واحدة: خروجه من الدين.

هذا الموضوع لن أسرد به إلا استنتاجاتي الشخصية بشأن تحول بعض المسلمين (أو حتى غير المسلمين) إلى الإلحاد، وإنكار وجود الله. قد تكون تلك الاستنتاجات خاطئة .. قد تكون مصيبة .. حقيقة أنا لا أهتم بأن تكون هذا أو ذاك بقدر اهتمامي بأرائكم، ومقترحاتكم لإيقاف هذا الزحف الكفيل بتدمير مستقبل جيل بأكمله.

أنا أرى أن الملحد يلحد لأحد الأسباب التالية.....

1. ضعف الدين في هذه الحقبة

اللغة السائدة لدى الملحدين هي: لو كان الله موجود حقًا، فلماذا يترك عباده المسلمين الذين يؤمنون بوجوده ووحدانيته يُذبحون ويُشردون ويُهانون من غيرهم؟ ألا يستطيع نصرتهم؟ أم أنه غير موجود بالفعل، وأن الدين هذا وهم كبير اخترعه الحكام للسيطرة على الشعوب؟

نعم .. ضعف تمكن الدين يطير عقل الإنسان، وخاصة ضعيف الإيمان. والذي ينسى في غمرة ضعف إيمانه، أن لله سنن كونية لا تتبدل، ولا تتغير. كان من مقولات الشيخ الشعراوي رحمه الله "إن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة"

لذلك من الحماقة أن تقول بأننا بخير لأننا مؤمنون بوجود الله (بدون عمل يؤكد هذا الإيمان)، والغرب ستصيبه كارثة لأنهم لا يؤمنون به، بينما الغرب يتقدم ونحن متأخرون للغاية ... الأمر غير هذا تمامًا.

قيم مثل العدل، النزاهة، والأمانة، إذا تم تفعيلها في مجتمع مُلحد لا يؤمن بوجود الله سيتقدم ويرتقي. فليس من المنطقي أن يسود الظلم والجهل وسوء توزيع واستغلال الثروة في مجتمعاتنا ثم نتحدث عن الإيمان بالله. أظن أن هذه فتنة، تصيب – أول ما تصيب – المتشكك في الدين، فيُفتن بتقدم الغرب بدون دين، فيترك الدين.

أتذكر حينما كان أحد قادة المغول يجادل واحد من أشهر علماء المسلمين، حينما قال له: ألستم المسلمون؟ قال الرجل: بلى. قال المغولي: ألستم على الحق؟ قال: بلى. قال المغولي: فلماذا يفعل (إلهكم) هذا بكم؟

فقال العالم المسلم: إذا شردت إحدى غنماتك عن قطيعها، ماذا تفعل معها؟

قال المغولي: أرسل خلفها أحد كلابي، ليعود بها إلى القطيع.

قال العالم: فأنتم كلاب الله، أرسلكم علينا، لنعود إلى الطريق. (وقد كان)

2. خطأ البوصلة

عرفت الكثير من الشباب حينما اختار توجه الالتزام الديني، يقع في نفس الخطأ الذي حذَّر منه النبي صلى الله عليه وسلم منذ قرون:

لا تكونوا إمَّعةً تقولون إن أحسَن النَّاسُ أحسنَّا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطِّنوا أنفسَكم إن أحسَن النَّاسُ أن تُحسِنوا وإن أساءوا أن لا تظلِموا

الراوي : حذيفة بن اليمان | المحدث : المنذري | المصدر : الترغيب والترهيب | الصفحة أو الرقم: 3/308 | خلاصة حكم المحدث : [إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما]

لقد وجدت الشاب يلتزم على دين شيخه، وليس دين الإسلام. فإذا حدث من شيخه مالا يليق، أو مالا يتفق مع المنطق والحق، يكره شيخه، ويكره الالتزام، ويكره الدين بالكلية، وقد يرتد، ويرى أن الدين خُدعة، وأنه مجرد أداة موظفة لأغراض سياسية (الدين أفيون الشعوب)، وأنه كان مخدوعًا، وأنه وأنه، وأنه،.......الخ. (حدث الأمر عندنا في مصر بعد أحداث 3 يوليو/تموز 2013، وفتنة الكثير من الشباب في شيوخهم. وحدث قبلها كذلك، ولكن هذا الحدث كان أوضحهم).

منهج الإسلام واضح بالقرآن والسنة. من طبقه على النحو الصحيح، سيظهر الله به الحق أمام الناس. من خالفه، فسيحدث له كما حدث لكل الدعاة الكاذبين والمنافقين عبر التاريخ. القصد: اعرف الحق، تعرف الرجال. هناك مظاهر محددة تكشف الداعي الصادق من المنافق، سيدلك عليها قلبك، وسيجعلها واضحة لك كالشمس، إن أخلصت النية لله، وسلحت نفسك بالعلم.

3. تصور أخلاق مثالية (غير واقعية)

ما الضرر في زواج الرجل بالرجل؟ أو زواج امرأة بكلب أو حصان؟ ولماذا لا يكون للمرأة التعدد كما للرجل التعدد؟ ولماذا لا يتم المساواة بين الرجل والمرأة في الإرث؟ ولماذا لا تحكم المرأة؟ ألا تعتبر هذه عنصرية؟ هل الإسلام عنصري؟

هناك الكثير من الأسئلة تحمل هذا النمط. كل سؤال يعتبر فتنة في حد ذاته، يساعد الشاب المتشكك على الخروج من الدين.

حسنًا .. قد تتوقع أن أناقش معك الأسباب المنطقية لحدوث مثل هذا الأمر، أو حكمته، أو تبعته، أو أضراره النفسية والجسدية، أو واقعية تطبيقه من عدمها، أو غيره من الأمور .. ولكني لن أفعل!

الأمر بالنسبة لي، عقائدي بحت، ينحصر في آية واحدة {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} ﴿الأعراف: ٥٤﴾ أنا أعتقد أن الله هو الذي خلقني، وأنه أدرى بأمري مني، وأعلم بما ينفعني، وما يضرني، وأنا ألتزم بطاعته، وأنه لم يجعل بيني وبينه واسطة ولا كهانة، وهو يحكم ما يريد، لأن هذا أصل الاعتقاد لديّ.

فليس من المنطقي مناقشة الخالق فيما سمح أو منع (وما سمح أضعاف أضعاف ما منع بالمناسبة)، وكل الدلائل والأبحاث العلمية والاجتماعية توضح الآثار السلبية لاقتراف الإنسان – على اختلاف دينه – ما أمر الله به.

نعود إلى العلم كلغة بعيدًا عن الاعتقاد .. جميع الأسئلة التي ذكرتها في بداية هذه النقطة يمكن مناقشتها بشكل علمي تفصيلي، مؤيدة بالدلائل العلمية والاجتماعية لمن يرغب.

4. حُمَّى الـ Trend

في ستينات وسبعينات القرن العشرين كانت حُمَّى الـ Trend السائد وقتها هو الشيوعية .. لا أقول الشيوعية تحديدًا، ولكن التشي – جيفارية (إن صح القول). فالرجل حقيقة فاتنًا وله تأثير كاريزمي لا يُقاوم، وخاصة أنه يعتبر نموذجًا جيدًا للمجاهد المثابر الذي بذل نفسه – بدون تردد – لأجل فكرته، من البداية وحتى النهاية. الكثير ممن تأثروا بجهاد جيفارا، اعتنقوا الشيوعية (ومن بعدها الاشتراكية) كمنهج فكري.

ثم حقبة أواخر السبعينات، وبداية الثمانينات، والتي زاد فيها النشاط الديني على النمط والشكل السلفي (بدون تجديد للخطاب الديني، أو محاكاة لفقه الواقع، أو ترتيب لفقه الأولويات)، وكان نشاطًا مقصودًا ومتعمدًا ومدَعمًّا من الدولة والجهات السيادية للحد من المد الشيوعي (كل هذه الأحداث ترتبط بمصر تحديدًا).

فكان الـTrend وقتها هو نمط المتدين المتعصب لدينه، الكاره للشيوعية، والاشتراكية، والليبرالية، وكل من يقول له (صباح الخير) بدلاً من (السلام عليكم يا أخي). هذا هو الترند الجديد، والذي اختفى مثله مثل الشيوعية رغبةً أو قهرًا بعد اغتيال السادات من الجماعات الإسلامية ذات الفكر المسلح.

وأتى مبارك ومعه رأسماليته، وأتت معه العلمانية، فظهرت مجتمعات كاملة في مصر، ولقاءات وندوات تدعوا إلى اعتناق العلمانية كمنهج فكري (ما لله لله، وما لقيصر لقيصر – الدين في المسجد فقط).

أنا أرى أن الإلحاد هذه الأيام، هو الـ Trend .. هو النمط الفكري الذي يغري الشباب والنخبة المثقفة القارئة المتطلعة على اختياره. يحدث هذا بالتزامن مع الضعف الفكري للتيار الإسلامي، والمهزلة الإعلامية التي قادها رجال في وجوههم لحى ويمثلون – كذبًا – الإسلام، وساهموا في تشويه صورته عند المسلمين أكثر من غير المسلمين، وغيره من الأحداث التي سبقت سقوطه إعلاميًا ودعويًا مؤخرًا.

أرى – وهذا رأيي الشخصي بالطبع – أن الإلحاد الآن هو الـ Trend. سيثبت عليه من اقتنع به، وسيتركه من يرى عقمه، وعدم إجابته على الأسئلة التي تثير حيرته.

5. اختيار الطريق الخاطئ للإجابة على الأسئلة المحيرة

أختم بهذا الأمر، وهو في غاية الأهمية. من يبدأ في التفكير في أمر الدين – وخاصة الإسلام – ومدى صحته أو كذبه، يختار العمل منفردًا. تكون لديه تساؤلات تحيره، فيختار أن يفتح كتب الفقه والعلم، ويُبحر فيها وحيدًا. الأمر أشبه بمن يخبرك أن ضالتك على جزيرة في هذا البحر، فتؤجر قاربًا وحدك، وتبحر به، وأنت لم تكن رُبَّانًا يومًا ما. ما هي احتمالية وصولك للجزيرة في هذه الحالة؟

ليس هذا فحسب، ولكن كلما دعوت أحدهم إلى مناقشة علمية، مع أحد العلماء المتفتحين على هذا العصر، يرفض أو يتهرب، وكأن الإلحاد تحول إلى دين يخشى أن يفتنه أحد عنه. كونك ملحد يعني أنك متفتح الفكر، ولديك استعداد للمناقشة مع أي شخص. ما الذي تخشاه؟

فأين الدليل على هذا التصرف؟

العقل والمنطق يخبرانك أنك حينما تمرض يجب أن تذهب للطبيب، طالما ليس لديك المعلومات الطبية الكافية لمداواة نفسك. وحينما ترغب في بناء منزل، يجب أن تذهب للمهندس الذي يبني لك دارك. ومن الخطأ – كل الخطأ – أن أن تكتب الدواء المناسب لحالتك وحدك، أو أن تضع تصاميم منزلك وحدك. هل ينافي هذا الرأي المنطق في شيء؟

لماذا إذًا تفترض أنك بالكفاءة اللازمة للتبحر في كتب الفقه والتفسير ومقارنة الأديان وحدك، وأن هذا كاف لتتخذ قرارًا بمثل هذه الخطورة؟

ربما تعترض فتقول: ألم تذكر منذ قليل أن ديننا ليس فيه كهانة أو وساطة؟

نعم، قلت. ولكن مشكلتك ليس مشكلة وساطة، إنما هي مشكلة لغة وفقه واستنباط وعلم. لماذا تفترض في نفسك – أيًا كان مستواك العلمي – القدرة على استقراء واستنباط الأحكام من كتب اجتهد فيها علماء منذ قرون؟

ثم السؤال الأهم: ما هي قواعدك الفكرية والعقلية التي تبني على أساسها اقتناعك بحكم ما أو رفضه؟

على سبيل المثال: قواعدي وأسسي الأخلاقية منبثقة من ديني. فأنا أرى أن الرفق بالحيوان التزام أخلاقي يحثه عليّ ديني، ويتوافق مع فطرتي. فما هي المرجع الأخلاقي لديك (أو المنهجية الموثقة بمعنى أدق) التي على أساسها ترفق بالحيوان؟

معذرة .. أطلت الحديث عليك .. عامة، أكرر: هذه اجتهاداتي الشخصية. لم يمليها عليّ أحد، ولك حق قبولها أو رفضها أو حتى دحضها، فهذا حقك، وأكون سعيدًا بذلك في الواقع، طالما النقاش كان ثريًا راقيًا.

ولكن ما أطمع فيه أكثر هو آراء جميع الأطراف في هذه المسألة. سواء المؤمن أو الملحد أو اللاأدري أو حتى من يطالع المشهد من بعيد.