اغلب التيارات اليوم لا تعدوا كونها ردود فعلٍ لا غير، التيار الإلحادي الحديث على سبيل المثال والذي يستشري في شباب الوطن العربي يتوج نفسه مفكراً متحرراً من القيود في حين هو ليس سوى ردُّ فعلٍ على التعصب الديني فهو الآخر أصبح مقيداً بكونه رد فعل لا بكونه منهجاً فكرياً قائم على أسس وثوابت (طبعاً لا أتحدث هنا عن المسائل الفلسفية والنقاشية بين المفكرين من الجانبين فهذه لها أهلها وإنما حديثي عن ظاهرة اجتماعية تحرك وتؤثر في حياة الناس والشباب في الخصوص) ثم نجد نقيضه المتعصب الديني يزداد تعصباً ويقوى فعله وهكذا أصبح لدينا قطبان متنافران!

حسناً ماذا اريد من هذه المقدمة؟

اريد أن اخاطب هذه "الأنا" العصيّة على التواضع عند الجانبين فالتخلي عن مبادئ وأفكار تربيت عليها وإنسلاخك عن بيئتك ومعارضتك لأفكارهم وتوجهاتهم لا يجعلك بالضرورة ذلك الإنسان المثقف المتحرر الواعي كما لا يجعلك على الحق بالضرورة.

وكذلك الإستماتة والولاء على ما تَربيت عليه والدفاع عن عقائك وأفكارك التي صُبتّ في عقلك وإنتقائك ما يدعم قضاياك وأخذها كلها بدون عرضها على العقل ليس هو الآخر الطريق السليم لتبني عليه وجودك كإنسان مُفكر.

إكتفائك بالسطحيات وبنائك لذلتك بكونك ردُّ فعلٍ سيعمي بصيرتك عن الكثير من الحقائق بل سيصيبك من حيث لا تعلم بالفراغ واللامعنى! أنت خلقت لتعيش حياة فلماذا تعش نصف حياة؟

يقول جان جاك روسو في كتابه دين الفطرة:

" وما كان يزيد من حيرتي هو أني ولدت في أحضان كنيسة تفصل في كل قضية قضية ولا تدع أي مجال للتردد. إن رفضتُ جزءاً من العقيدة، مهما دقّ، رفضت الكل. لم أستطع تصديق أحكام غير معقولة، فزهدت في أخرى معقولة. قالوا لي صدق الكل فأرغموني على رفض الكل. لم أعرف عند أي حدّ أقف "

الشخصية في كتاب روسو لم يستطع ان يصدق بعض جزئيات الدين فأضطروه أن يرفض الدين كله.. اليوم أجد العكس عند البعض فهو من يرفض الدين كله بسبب بعض جزئياته التي يجدها ..كونك مُحبّ العلم وتقول أنك تسير بالمنهج العلمي لا يعني بالضرورة أن ترفض الدين كُله كون بعض جزئياته -حسبما ترى- تعارض العلم فتمنع نفسك من لذائذ الروحانيات والسلوك الخلقي النيّر والخطابات التي تنادي القلب فتضفي المعنى لوجودك، أنّا للإنسان أن يعادي وجدانه وفطرته! هذا ما لا استسيغه في من يدعي التنوير في واقعنا الحاليّ وذلك أن يكون العلم مرادف لرفض الكل ما سواه.

(مرّة أخرى خطابي ليس معادياً للعلم وإنما لذلك الشكاك العلموي الذي اغرته بعض المصطلحات الرنانة فغرق في شكه وآمن بالعلم بل بسطوح العلم إيماناً يجعله ييرفض الكل ما سواه فيجعل بسطاء الناس يسيرون ويتيهون بمن بعده)

في الطرق الآخر نجد الوضع نفسه ولكن الرفض يكون للحقائق العلمية!