أعتذر عن إطالة المساهمة، لكونها مليئة بالتفاصيل، كما يوجد كتب كاملة حول هذا الموضوع.

لقد كانت الحرب العالمية الثانية أول ما جمع الروائيان سارتر الفرنسي وكامو الفرنسي-الجزائري، فهذين الكاتبين والفيلسوفين التقيا من خلال الكفاح ضد النازيين وبالميول الأدبية وبالفكر الوجودي وبالتوجّه الشيوعي، فكانا كثيراً ما يجتمعان هما مع عشيقة سارتر سيمون دي بوفوار في المقاهي التي باتت تعرف لاحقاً بمقاهي الوجودية، لكنّ علاقتهم سُرعانَ ما ساءت حتى انقطعت نهائياً.

معاني التمرّد عند سارتر:

أبرز مفهوم جاءَ بهِ سارتر ضمن فلسفته الوجودية هو مفهومه للعيش بأصالة Authentically، والذي يعني أن الإنسان يجب أن يعيش حسبَ نظرته هو للحياة، وأن يُلاحق الأهداف التي يراها هو ذات قيمة، أمّا العيش وفقاً لرؤية الآخرين فهو ما أطلق عليه مُصطلح bad faith، كأن تعيش وفقاً لما يتلوه عليك مُدرّسك أو حكومتك أو مجتمعك، أي أن تعيش وفقاً لمعنى أوجده أحداً غيرك، فسارتر أشار إلى أن هؤلاء كُلّهم بالنهاية بشر مثلك، ولا أحد يملك فكرة عن معنى الحياة أكثر ممّا تملكهُ أنت، فإن تبعتهم فأنت فقط لا تعيش بأصالة unauthentically، ويقول سارتر أن البشر من هذا المُنطلق أحرار إلى درجة كبيرة لعدم وجود جهة تعطيك توجيهات لحياتك، كما دعا سارتر إلى التخلّي عن أي شيء يُسيّر حياتك بطريقة مُعيّنة لا تقتنع بها، كأن تعمل لساعات طويلة لتشتري مُنتجات فقط لأن الجميع يشتريها من النظام الرأسمالي، ولهذا بالذات كرهَ سارتر الرأسمالية وأحب الماركسية التي تبدو في ظاهرها ملاذاً للباحثين عن الحرية.

الخلاف الأساسي الذي أنهى العلاقة بين سارتر وكامو هو مُمارسات الإتحاد السوفييتي بقيادة ستالين آنذاك، فكامو رفض مُعسكرات الإعتقال السوفييتية (الغولاغ) كما رفض مُعسكرات الإعتقال النازية سابقاً، بينما سارتر الرافض للنازية كان مُؤيّداً للإتحاد السوفييتي من جهته، فسارتر لم ينفي وجود مُعسكرات الإعتقال، لكنّهُ كان يرى أن هذا سيقود بالنهاية للخير العام، وتحقيق المساواة وتحرير العمّال من الرأسمالية.

يُناقش الكثيرون أن سارتر كان يعيش بـِ bad faith -المُصطلح الذي أوجده هو- فبعد أن أيّد السوفييت، ألزم سارتر نفسهُ بهذه الجانب، وظلّ يُدافع عنه حتى بعد رؤيتهِ لما فعلهُ قادتهم من جرائم، فكان يُتوقّع من سارتر أن يتخلى عن توجهاته تلك أو أن ينقدهم على الأقل كما فعل كامو، لكنّهُ ظلّ مُتمسكاً بالمعنى الذي أوجده آخرون غيره، وهذهِ نقطة سوداء تُحسب برصيد سارتر، إلّا أنه ظلّ نجماً لامعاً بين الشيوعيين والمُعادين لأميركا إلى اليوم.

يرى البعض أن سارتر لم يكن يُعطي أهميّة لحياة البشر ممّا سهل عليه تأييد الإتحاد السوفييتي آنذاك مُستشهدين بجملته الشهيرة "الجحيم هو الآخرون"، مُقارنةً بكامو الذي يُلاحظ بسهولة من كتاباته حبّه للصداقات والرياضة والطبيعة والصيف أي للحياة، لكن هذه فكرة خاطئة ومُبالغة بحق سارتر خاصةً أن جملته هذه كثيراً ما يُساء فهمها كما يقول هو، والتي يقصد منها بسياق النص أنّنا لا نشعر بنواقصنا إلّا من خلال غيرنا، كمدى النجاح والجمال وغيرها، بينما لا يقصد بذلك تقليل قيمة الحياة البشرية.

معاني التمرّد عند كامو:

يتحدث كامو في كتابه "أسطورة سيزيف" عن الروتين اليومي الذي يتبعهُ معظم الأشخاص في حياتهم بالعمل والأكل والنوم، ويقول أن يوماً ما نستيقظ فجأةً نتيجةً لعدّة أسباب كالعزلة، أو موت شخص مُقرّب أو بسبب الفراغ، ونبدأ بطرح أسئلة جودية عن معنى الحياة ومعنى الأمور عامةً، وينشأ العبث هُنا عندما نطرح الكثير من الأسئلة ونلقى بالمُقابل صمتاً طويلاً من الكون، فالعبث فلسفياً هو البحث عن جواب في عالم خالٍ من الأجوبة، و يوجد نصوص بأسطورة سيزيف يقول فيها كامو أنه لا يعرف إن كان لهذه الحياة معنى، لكنهُ يعرف أنه لا يستطع إدراك ذلك المعنى بحال وجوده، لذلك من الخطأ الظن أن العبثية هي فلسفة تقول أن كل شيء بالكون لا معنى لهُ، فهذه عدمية بحتة، كما أن مُصطلح العبث لا يعني ذلك فلسفياً، فالعبث ينشأ من حاجة الإنسان للوصول إلى معنى وصمت الكون المُقابل، ولحلّ هذه المُشكلة يقول كامو أن هُنالك ثلاثة خيارات: أولها الإنتحار عند التيقّن من أن الحياة لا معنى لها، وثانيها هو ما أسماه الإنتحار الفلسفي، وهو أن يهرب الشخص من مُشكلة غياب المعنى إلى الإعتقاد بوجود معنى مُطلق غيبي دون أن يكونوا قادرين على التأكد من ذلك أي ببساطة الإيمان بالله، أمّا الحلّ الثالث والمُفضّل بالنسبة لكامو فهو أن تُدرك هذا العبث وتكمل طريقك رغماً عنه، أي أن يتمرّد الإنسان ضد هذا العبث وهذا الشخص أطلق عليه مُسمّى Absurd hero، لكنّه كان يعرف أنه بمُجرّد غياب المعنى والسلطة الآلهية من المُمكن أن يؤول هذا التمرّد إلى ما أطلق عليه اسم التمرّد العدمي كالذي عاصرهُ ورآهُ من النازيين والسوفييت، فإن لم يكن لأيّ شيء معنى ولا شيء مُهم فإن أي شيء قد يُصبح مُمكناً، ويوجد عشرات الأمثلة من تلك الحقبة على التمرّد العدمي سواءً بالأفعال كجرائم الأنظمة الشيوعية لصالح "المصلحة العامة" أو حتى بالتصريحات، فمثلاً يُذكر أن تشيغيفارا قال أنه لو كانت الصواريخ التي نشرها السوفييت بخليج الخنازير تحت سيطرة الكوبيين لأطلقوها فوراً على أميركا، فتشيغيفارا الذي تُشكّل مُحاربة الرأسمالية لديه أهم معاني حياته كان على إستعداد لإدخال العالم بحرب عالمية ثالثة والتضحية لرُبّما بعشرات الملايين دون أخذ رأيهم إن كانوا مُستعدين لذلك، مُقابل إكمال التمرّد العدمي الذي يسلُكهُ، لذا دعى كامو بكتابه "الإنسان المُتمرّد" إلى تمرّد حقيقي ونوع من التضامن الإنساني مبني على الحرية ورفض الأنظمة الشمولية، وهذا يكون عبر إدراك كل واحدٍ منّا لحقيقة العبث وإدراك أنّنا كُلّنا نملك هذه المعاناة الوجودية وأن علينا تحدّي هذا العبث بشكلٍ لا نتعدى فيه على حرية وحقوق أحد.

لقد كان كامو مُناهضاً دائماً لفكرة الإحتلال والكولونيالية ، فقد شاركَ مع المقاومة الفرنسية ضد النازيين، كما ندّد كثيراً بالإستعمار الفرنسي للجزائر، ولمّا كان كامو رئيساً للتحرير في جريدة "الكفاح" الفرنسية كتب كثيراً عن انتهاكات الفرنسين في الجزائر، كما كتب سلسلة من المقالات عن الجوع والعطش في منطقة القبائل الجزائرية، ولمّا اندلعت الثورة الجزائرية ونادى الشعب برحيل الفرنسيين واستقلال الجزائر، وجد كامو نفسهُ بأزمة أخلاقية ومأزق مُحيّر، فكامو أحبَّ الجزائر فقد وُلِدَ وعاش طفولته ودرس فيها ولا يُريد أن يتخلّى عنها، ومن ناحية أُخرى يُعارض كامو هذا الإحتلال والإنتهاكات الحاصلة، وهذا سبّبَ أزمة كبيرة لهُ خسِرَ معها جمهوره الفرنسي اليساري الرافض للإستعمار وجمهوره الجزائري كذلك، فصحيح أن كامو لم يؤيد إجرام الفرنسيين، لكنّه أيضاً لم يُؤيد الثورة بل دعا إلى إيجاد سبل للعيش المُشترك بين الشعبين، كما ذهب إلى أنّ المطالبة الوطنية باستقلال الجزائر جزء من الامبريالية العربية الجديدة التي تسعى إليها مصر، والتي تستخدمها روسيا لأهداف مناهضة للغرب، ممّا أثار حنق الجزائريين وحصل على إثره على نقد من سارتر ودي بوفوار والكثير من المُجتمع الفرنسي اليساري.

كما جاءت حادثة أُخرى لتُضعف صورة كامو أكثر، فباليوم التالي لذهابه إلى السويد لتسلّم جائزة نوبل، التقى كامو بعض الطلاب الجامعيين، وكان من بينهم شاب جزائري ندد بموقف كامو بشكل هجومي من الثورة الجزائرية، فردّ عليه كامو بجملة ستأخذ أصداءً كبيرة فقال "تُزرع بهذه اللحظة قنابل بترامات الجزائر، ومن المُمكن أن تكون أُمّي على واحدة من هذه الترامات، فإن كانت هذه هي العدالة فأنا أختار أمّي". هذا التصريح جاء على طبق من ذهب للصحف اليسارية التي اجتزأت هذه الجملة من رد كامل وأظهرتهُ بمظهر من لا يعنيه من كل تلك الأحداث المآساوية والمجازر إلّا أمّه، بينما كامو كان غالباً يتكلم بانفعال من هجوم الطالب الجزائري مدعوماً برفاقه الذين كانوا يلقنونه ما يقول، فكامو كان يُحبّ الجزائر ولم يتقبل فكرة التخلّي عنها، لكنه غالباً لم يقصد أنه راضٍ عن انتهاكات الفرنسيين وهو الذي كان يكتب عنها قبل الثورة، كما يتضح فيما بعد أن الشاب لم يكن يعرف كامو سابقاً بل أصبح كاموياً بعد أن قرأ تقريره عن منطقة القبائل التي ينحدر منها الشاب كما هو مُوضّح بهذا المقال المهم (

http://bit.ly/2CVDwM5).

انقسم الجزائريون كثيراً حول كامو ويرفض الكثير من الجزائريين القوميين اليوم اعتبار كامو أحد رموز البلد، بل أن معظم الصحف تتجنب الحديث عنهُ نهائياً ممّا جعل الكثير من الشعب لا يسمع باسمه حتّى، الأمر المُستغرب بطبيعة الحال خاصةً أن الكاتب حائز على جائزة نوبل، بالإضافة أيضاً لوجود سبب آخر هام يخصّ وجود نزعة عنصرية تجاه العرب واستعمارية تجاه الجزائر بكتبهُ وبشكل خاص بالغريب والطاعون والتي كان لإدوارد سعيد الدور الأكبر بالإشارة إليها، وإن بحثتَ قليلاً بالمواقع العربية والجزائرية ستجد أمثلة كثيرة على ذلك، فقط اكتب (كامو والجزائر) واقرأ المواقف المُتباينة.

هذه بلا شكّ علامة سوداء هي الأخرى برصيد كامو تتعارض مع أفكاره القديمة حول الإستعمار، لكن أيضاً يجب عدم نسيان أن كامو كان يُقدّم المُساعدة للسجناء الجزائريين المحكومين بالإعدام أثناء الثورة، كما كان يكتب عن انتهاكات الفرنسيين قبل الثورة.

انتهاء العلاقة بين سارتر كامو:

أوّل ما هزّ العلاقة بين هذين المُفكّرين، هو أن دي بوفوار أبدت اهتماماً جنسياً بكامو إلّا أن كامو رفض عرضها، الأمر الذي جعل سارتر غاضباً على كامو، وإن كان برأيي أن المُلام هنا فقط هي دي بوفوار إلّا أن للغيرة أفعالها.

لمّا كتبَ كامو كتاب الإنسان المُتمرّد عام 1951، أحدث الكتاب ضجّةً كبيرة بالأوساط الفرنسية ذات الإتجاه اليساري الكبير آنذاك، وطُرِدَ كامو من الحزب الشيوعي، وبعد صدور الكتاب بمدّة كتب فرانسيس جانسون (المُدافع بشدّة عن الجزائر بالمُناسبة) نقداً قويّاً للكتاب في مجلة الأزمنة الحديثة التي كان يرأسها سارتر آنذاك، استاء على إثره كامو كثيراً، وكتب بدوره ردّاً إلى جونسون، لكنهُ سرعان ما عرِفَ أن سارتر هو من أوعزَ لجونسون بكتابة هذا النقد (واعترف جونسون بذلك)، فكامو الذي لطالما قدّس الصداقات طيلة حياته لأنها كانت تُساعده على التمرّد ضد العبث، لم يتقبل أن يتسبب صديقه بكتابة هكذا نقد لكتابه، فأزال اسم جونسون من الرسالة واستفتحها بعبارة Monsieur le directeur وأرسلها للمجلة إلى سارتر، ممّا أغضب سارتر وردّ على كامو بشكل يُنهي العلاقة بشكل واضح.

عندما يُشار إلى كامو، فعادةً ما تتم الإشارة إليه على أنهُ كاتب مُتميّز أدبياً، لكن ليس بنفس التميّز السياسي، فكتاب الرجل المُتمرّد على الرغم من المعاني الجميلة والقوية التي يحمُلها، إلا أنها تبدو أفكاراً مثالية من غير طريقة عمليّة للتطبيق، لكن مع ذلك يبقى نقده للإتحاد السوفييتي عام 1951، بالوقت الذي كانت فيه الكثير من المُجتمعات الأوروبية المُثقّفة والفرنسية خاصةً تسلك هذا الإتجاه، لاذعاً واستثنائياً فعلاً وخاصّةً من خلال نقد السوفييت بشكل مُباشر وإظهار تناقُضاتهم، الأمر الذي لم يقوى سارتر على فعلهِ.

حين استلم كامو جائزة نوبل سُئِلَ عن علاقته السابقة مع سارتر، فقالَ أنها استثنائية "لأن أفضل العلاقات هي تلك التي لا يرى فيها بعضنا بعضاً" ولمّا مات كامو بحادث سيارة كتب سارتر ثناءً لافتاً لكامو، وفي مُقابلة مع سارتر عام 1975 سُئِلَ عن علاقته بكامو وبعد حديثه عن ذلك قال أن كامو هو "غالباً آخر صديق جيّد له".

يتشابه كامو مع كاتباً كبيراً آخراً بجوانب كثيرة خاصةً بموقفه من الإتحاد السوفييتي، لكن كامو للأسف لم يتمكن من لقاء جورج أورويل بأحد مقاهي باريس كما كان مُخططاً لهُ بسبب مُعاناته مع مرض السل، فكلا الرجلين انتقدا السوفييت، وحتى أدبياً كلاهما يعتبر أنه من الواجب ترك الحرية للقارئ ببيئة الرواية بدلاً من توجيهه بطريقة مُعيّنة، وهذا ظاهر بكتابات كامو بشكل كبير، فإن كُنتَ قد قرأتَ الغريب وتعتقد أن كامو يدعو من خلالها إلى القتل بحجة أنه فعل عبثي أو يدعو إلى عدم الإحساس بشيء عند موت الأم، فأنت غالباً لم تفهم كامو، خاصةً عندما يكون الكتاب نابعاً من شخص يعشق أمّه ويُعتبر سلامياً Pacifist وحارب لفترة طويلة بحياته حتى ضد عقوبة الإعدام للمجرمين.

ويُمكنك أن تقرأ هذا المقال الطويل جداً بالإنجليزية عن أوجه الشبه بين كامو وأرويل (

مقطع يشرح أسباب الخلاف بين سارتر وكامو:

وثائقي جميل وقصير من BBC عن العلاقة بين سارتر وكامو:

هل تعتقد أن كامو يجب إعتباره اليوم رمزاً من رموز الجزائر؟ أم أن عدم تأييده للثورة ألغى هذا الإنتماء لديه كليّاً؟ هل تعتقد أن موقف سارتر كان مُبررّاً بسبب طموحه لتخليص العمّال من الرأسمالية؟ أم أن فكرة التضحية بالحياة البشرية كُلّها مرفوضة حتى لو كانت لتودي لخير أكبر؟