أن تعيشي في مدينة خطرة

أنهض من الفراش متثاقلة مستشعرة بعض الآلام المتناثرة فوق جسدي بعد ليلة ليست بالقصيرة ولا الطويلة , لكن مصارعة الأرق مع أصوات أبناء الجيران أعاقت سبيل النوم ليصل إلى جفني المسهّد .

تمتد يدي لتفتح الدرج معتادة دون أن تعينها عيني في الرؤية مستعينة بذاكرة اللمس التي حفظت الطريق دون أن تخطئ مرة , أتناول رذاذ الفنتولين لأتمكن من التقاط نفسي العالق في القصبات الهوائية مصدراً صوتاً كأزيز مسننات صدئة .

لست سوى عجوز في الثلاثين من عمرها تقطن القاهرة, تشمّ أطناناً من عوادم السيارات كجرعة يومية , تدوس أقدامي النفايات التي غطت شوارعها حتى لم تعد تستبين إن كانت الطريق معبدة أم أن هذه الأكوام من النفايات قد تراكمت عبر العصور الجيولوجية فتحللت وتكدست بفعل عوامل الدوس المتكررة من الأقدام!

تلك الأقدام التي تكاثرت و تكاثرت و تكاثرت حتى لم يعد يقو عليها جهاز الإحصاء في الدولة فغدت الأرقام قاصرة عن عدها واقعياً .

أركب الحافلة أو بمعنى آخر أصارع للركوب متجاهلة لون الحذاء معانقة حقيبتي حتى أغدو أنا وهي كياناً واحداً , مقطبة حاجبيّ كأني أتأبط شراً ظناً أني سأخيف أي صعلوك قد أصادفه في رحلتي إلى عملي اليومية , أدسّ في أذني تحت غطاء رأسي سماعتان صغيرتان تخلق حولي هالة من جو كلاسيكي ربما أو فيروزي يعزلني عن كلمات عابرة قد تخترق طبلة أذني الصغيرتين و تؤذيهما .

قد لا تعرف ما أعنيه فتاة في نفس سني تعيش في إحدى ضواحي الريف الغربي لمدن أخرى من القارات المجاورة لنا .

أنا الفتاة التي هربت من أكثر المدن جحيماً على سطح كوكبنا هذا , مدينةً كانت تسمى فيما مضى (بمدينة الياسمين) , لكن يد الحرب الآثمة شوهت معالمها وتحولت إلى منطقة مستعرة تتلون فيها أصناف العذاب .

التمست الأمان بمدينة أخرى لكن ما لبثت هذه الفكرة أن تحولت إلى كابوس آخر تعيش بداخله كل أنثى قررت الخروج لترى نور الشمس .

هناك فقط ستدركين أن فكرة الخروج من المنزل للذهاب إلى عملك ليست أقل جنوناً من الذهاب في رحلة سفاري عازلةً مشياً على الأقدام !

في الصباح قرأت تقريرا قبيل نزولي إلى الشارع في رحلة الوصول إلى مكتبي : "القاهرة تتصدّر المدن الكبرى في العالم الأكثر خطورةً على النساء" ,حيث حلت القاهرة على قائمة “التوب 10” متبوعة بكاراتشي و كينشاسا، وديلهي، ثم ليما وميكسيكو، في حين صنفت لندن كأفضل المدن الكبرى بالنسبة للنساء.

يذكر أن الدراسة الاستقصائية تعتبر الأولى من نوعها، حيث طلبت مؤسسة تومسون رويترز من الخبراء في قضايا المرأة “المدن التي تعتبر مأمونة للمرأة”، التي يلزمها بذل المزيد من الجهود لضمان عدم تعرض المرأة لخطر العنف الجنسي والمضايقات والممارسات الثقافية الضارة والولوج للرعاية الصحّية والتمكين الاقتصادي والتعليم .

وشمل الستقصاء أربع محاور أساسية هي التحرش الجنسي و الحصول على الخدمات الصحية، الممارسات الثقافية، وتوفر فرص العمل والتعليم.

يشار أن التقرير انطلق من خلفية التوسّع الحضاري للعالم والتحوّل نحو المدن، حيث” يبدو أن المستقبل حضري مع حوالي 66٪ من السكان الذين يعيشون في المناطق الحضرية بحلول عام 2050، مقارنة مع 54٪ اليوم .

وقال التقرير إنه مع تضاعف عدد الحواضر ، حيث يمكن للمدن أن تحفز التنمية وتحدّ من الفقر، فإنها يمكن أيضاً أن تخلق مشاكل جديدة نتيجة سياسات لا تضمن تقاسم فوائد الحياة في المدينة بشكل منصف.

انتهى التقرير الذي واجهه البعض بأنه مبالغ به ولا يعكس الواقع ولكن وبعد أيام قليلة وعبر هاشتاج عالمي “Me Too” بدأ في هوليود سارعت من خلاله فتيات مصر بالتعبير والخروج عن صمتهن ورواية قصصهن عن طريق الهاشتاج أو صفحات متخصصة تنشر رواية إحداهن دون أن تتمكن من الكشف عن هويتها ! فالتحدث في مثل هذه الجرائم علناً قد يجعل من الضحية مجرماً أيضاً بل قد يحمله مسؤولية دفع المتحرش إلى قيامه بهذا الفعل المريض .

أياً كانت هذه التقارير الي تطالعنا بين الفينة والأخرى فإنه مما لاشك فيه أن تكوني امرأة عربية تعيش في إحدى حواضر المدن النامية كابوساً يطاردك منذ أشعة الشمس الباكرة إلى أن تغلقي باب المنزل و تحاولي أن تغمضي جفنيك وتطالعي ما مر بك خلال اليوم في كابوس آخر جديد!