من رحم الجريمة الأولى لقابيل في الموروث الديني نتجت أولى مظاهر الحضارة من حيث دفن الموتى فكانت "الرغبة" أول الشياطين، ومن رحم الجريمة الثانية للدفاع عن النفس نشأت قوانين بسيطة بين البشر الأوائل وأشهروا الأسلحة ضد بعضهم البعض فكان "الخوف" هو الشيطان الثاني و"الأمان" هو الملاك الأول، ومن رحم الجريمة الثانية وأسلحتها ومن رحم الحضارة -الزراعية- خرجت الحروب التي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا فكان "الجوع" هو الشيطان الثالث (الجوع كافر) وكان "الطموح او الجشع" هو الشيطان الرابع وتقوم القوانين على هذه الشياطين لتصل الى الملاك الأول -الأمان- ويعتقد حمورابي أن قوانينه سماوية ملهمة من ارباب الصواعق والطبيعة.. وتقوم بعض أعظم الحضارات على الجريمة بينما البعض الآخر يتركنا متحيريين حول علام قام ولكن بحجةٍ ضعيفة يمكننا القول أنه قام على القوانين والتي هي رد فعل للشياطين.

الحضارة مفهوم فضفاض جداً وقد يشمل كل ما يخص فئة معينة من الكائنات كالبشر وما لا يخصهم -المشترك بينهم وبين الحيوانات- ومن المعروف أن مفهوم الحضارة البشرية أوسع من مفهوم الحضارة العربية والغربية فليس كل البشر عرب ولكن كل العرب بشر، ومن الظاهر أن مظاهر الحضارة الأولى بمفهومها الحالي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالدين أو هذا ما يظهر لنا حيث أنه قبل ظهور الحضارات الزراعية لم نستطع كشف أي دليل على تدين انسان العصر الحجري وغيره الا من قِبل بعض التماثيل النادرة، ولهذا لا يمكننا الجزم بأن الحضارة أصلها الدين ولكن يمكننا الجزم أن العديد من مظاهرها أصله الدين أو على أقل فهو يلبس لباس الدين، والأديان القديمة أعتمدت في عبادتها بشكل جزئي على الأضحيات البشرية ثم الحيوانية ثم على هيئة تمثيلية يتم استخدام بعض العناصر الرمزية كدمية القش لتمثيل عملية الأضحية، ولكن من نظرة المجتمع القديم فهذا لم يكن "جريمة"، فالجريمة هي ما يعاقب عليها القانون أو ما يغضب الشعب على أقله لأسباب عديدة، فالقتل في الحضارات الأولى لم يكن جريمة كما أن معصية آدم كانت لازمة لمعرفة التوبة، والقوانين تظهر في ظاهرها وكأنها من صنع فردي متجاهلين من سبب هذه النظرة لذاك الفرد الذي أنشأ القوانين، لذا يمكن القول أن القوانين هي نتاج لردات فعل أستنكرها المجتمع وهي أساس في بعض أفراده هم من جعلوها قوانيناً ولهذا يمكن القول أن القوانين من صنع الجماعة وليس الفرد وانه ليس شرطاً إتفاق الجميع عليها، فبالتأكيد قوانين حمورابي كان هناك من يعتبرها "جريمة لأنها تخالف مبادئه ولكنه لما قال عنها ذلك ما لم ينطق بها حمورابي ويجعلها جزءاً من حضارته، وهذا ينقلنا الى أن هذه الجريمة مصدرها الحضارة.

وعند العرب أن حضارتهم أزدهرت بالإسلام ويمكننا الجزم أنه لولا الفتوحات الإسلامية لما سميت بحضارة العرب ولا لاحظناها، وكان سيولد هؤلاء العلماء العظام ويبتكروا ويكتشفوا وتنسب هذه الاختراعات لهم وليس للعرب أجمع، ومن الملاحظ أن فتوحات الاسلام في رأي العالم الحالي تظهر كجريمة صارفين النظر على أن من يحدد ما اذا كان الأمر جريمة أم لا هي الشعوب المتأثرة بها، والسبب في هذا الظن هو اعتمادها على القتل وبما أنه قانوني بالنسبة لمسلمي ذلك الوقت فهو لا يعتبر جريمة بمقاييسهم وهذا ينقلنا الى نسبية الجريمة، وهذا قد يكون أحد الحجج على عدم قدرتها على النشوء دون حضارة ودون دعامة أولية.

تبعاً لقانون الفعل ورد الفعل -وهو قانون فضفاض جداً- يمكننا أن نشبه تطور الحضارات بتطور العلم فهو تطور رأسي فكل حضارة تعتمد على الأخرى وكلما أعتمدت الحضارات على بعضها كلما كبر البناء وأقتربنا من صورة الحضارة البشرية والتي ربما يتفوق عليها "الحضارة الذكية" متى ما موجدنا الفضائيين.

أول ما يتبادر لذهنك عند ذكر الجريمة هو القتل او السرقة، ولكننا أخذنا القتل كمثال لأن له الأغلبية والغموض الأعظم على عكس السرقة التي ربما تكون أسبابها واضحة جداً أو طفولية جداً، وما زال غموض الجريمة الأولى قائم، فقتل قابيل لهابيل أُعتبر جريمة دون وجود من يشهدها من البشر ودون وجود حضارة فعلية وترتب عليه قيام أحد مظاهر الحضارة ولكن قيام هذه المظاهر لا يشترط كونها الأولى، ومنبع الحزن لدى قابيل هو من دفعه لارتكاب هذا المظهر الحضاري الرائع، وهذا الحزن أو العاطفة يمكن أعتباره الملاك الصفري الذي ولد مع البشرية، وهذه العاطفة تدلنا إلى أن الحضارة منبعها القلب -المعنوي- فهي بداخلنا وفي أعماقنا وكل ما يفعله التاريخ هو دراسة الظاهر لا الباطن ودراسة السطح لا الأعماق وتبقى الذاكرة الشعبية هي الشاهد الأزلي على هذا الحدث الرائع، الحدث الذي تدخل فيه العقل متغلباً على الشهوة والغريزة الحيوانية ليبدأ في فرض سيطرته على البشر عارضاً كل ما في جعبته من حضارة لنمتع بها أنظرنا اليوم.. فهل سبقت الحضارة الجريمة؟ أم أن الجريمة هي أم الحضارة؟ وما حجم دور الجريمة في تشيبد الحضارة؟ وهل هي المصدر الأم للقوانين؟ هل تؤمن بأن الحضارة أصلها الدين؟ أم..؟

هل يمكن أعتبار هذا المقال ضمن مسابقة التدوين الجماعي الجديدة، فبحثاً عن الكمال يمكن للمشرف عن المسابقة -التي ليست بمسابقة- تقييمها في صمت ان استحقت أم لا ولن أرسلها له لارضاء غرور شخصي.

هذه المقالة برعاية Humpty Dumpty لتنشيط مجتمع ثقافة الذي كان أنشط المجتمعات يوماً ما -بعيداً عن محتواه-.