نعم مُمكنٌ جداً. في الحقيقة أنا قرأتُ الكتاب مُنذ 5 سنواتٍ تقريباً ونسيتُ الكثير من محتواه، لكن سأسردُ النقاط الأساسيَّة التي أستطيع تذكرها الآن:

• الكتاب يُركّز بطريقة شديدة وغبية على مسألة أصل الحياة (كيف تكوّنت الخلية الحيّة الأولى في تاريخ الأرض)، بحيث تشغلُ أول بضعة فُصولٍ منه، مع أنّها - في الحقيقة - مفهومٌ خارج تماماً عن نطاق نظرية التطور. الشيء الوحيدُ المشترك بين التطور ونشأة الحياة هو أنّهما تفسيران علميَّان لظواهر بيولوجيّة، لكن لُغز نشأة الحياة خارجٌ تماماً عن وظيفة النظرية. داروِن لم يُجرِ أصلاً أيَّ أبحاثٍ عن كيفيّة تكون الخلايا، فمهمَّة نظريته كانت أن تشرحَ كيف تنوَّعت الكائنات الحية وانفصلت فصائلُها عن بعضها لتصل إلى شكلها الحاليّ، وهو ما تنجحُ به تماماً، ولكنه لم يُحاول مناقشة كيفية ظهور الخلية الأولى.

• الكتاب يستغلّ وقائع عديمة المعنى لبناء استنتاجاتٍ غير علميّة، بل وبرأيي غير مهنيّة، عن نظرية كبيرة ومُعقَّدة. مثالٌ على ذلك: إذا بنا نجدُ هارون يحيى يُخصِّص نصفَ فصل تطوّر الإنسان (في مُنتصف الكتاب تقريباً كما أذكر) ليُناقشَ حوادث فرديّة تافهة عن السلوكيات غير الأخلاقية لعُلماء التطور، والتي لا تمتُّ بأيّ صلةٍ للنظرية، عدا عن أنّ مُعظمها ليست أكثر من هراءٍ في الأساس. ففي إحداها يتحدَّث هارون عن إهدى أحافير الإنسان القديم المُكتشفة في الهند خلال القرن التاسع عشر، فقد وجدَ أحدُ العلماء آنذاك عظمة فكٍّ سُفليّ لنوعٍ من القُرود وجد تشابهاتٌ كبيرةٌ بينها وبين عظام فك الإنسان، فبدأ بعضُ الباحثين بالترويج للاكتشاف على أنّه يُثبت وُجود حلقة وسطى بين القرد والإنسان، إلا أنَّ الدراسات اللاحقة الأكثر تفصيلاً أثبتت أنّ الكائن الذي تعودُ له عظمة الفك تلك كان أقربَ لأن يكون مُجرّد نوعٍ من القرود. السبب في ذلك أن هذا النوع عاشَ قديماً جداً، قبل 12 مليون سنة، ومنَ المعروف الآن - لكنه لم يكُن معروفاً وقتها - أنّ الانفصال التطوري بين القرد والإنسان حدثَ بعد ذلك بكثير (هذا مصدرٌ مُفصَّل عن الأمر: https://en.wikipedia.org/wi... طبعاً، من وجهة نظر هارون يحيى كانت هذه خُدعةً حقيرةً مُتعمّدة من علماء كاذبين ومُلفّقين لإيهام العالم بأنّ الإنسان والقرد هُما واحد، مع أنّ علماء التطوّر هُم بأنفسهم من حقَّقوا هذا الاكتشاف مُنذ البداية، وهُم من أدركون لاحقاً أنهم كانوا على خطأ.

• الطريق الرئيسية لتفنيدِ فكرة التطوّر لدى هارون يحيى هيَ إثباتُ أن الحياة مُعقَّدة قدرَ الإمكان. لا بُدّ أن يستمرَّ بالحديث عن احتماليات نجاح الطفرات، وصُعوبات الحُصول على نتائج إيجابية من عمليّة الانتقاء الطبيعي، لكنَّه لا ينقدُ الآليات الفعليّة التي تقومُ عليها فكرة التطور. من جهةٍ أخرى، لا يُحاول هارون يحيى أبداً الحديثَ عن الشواهد والأدلئة المتوفرة لدينا على حُدوث هذه التغيرات "المُستحيلة" والتي نستطيعُ رؤيتها في عالمنا، شيءٌ بسيطٌ لكنّه معبّر عن ذلك هو الطريقة التي أصبحَ فيها جميعُ سكان صحارى العالم ومناطقه الحارّة ذوي بشرة سوداء، بينما أصبحَ سٌكّان المناطق الباردة من أصحاب البشرة البيضاء، وهو مثالٌ على تكيُّف الجلد البشري مع الكميَّة التي يستقبلُها من الأشعة فوق البنفسجية في ضوءِ الشمس.

• كتاب "خديعة التطوّر" ليس مبنياً على فكرٍ علميّ، بل فكرٍ عقائديّ، وهذه - في الواقع - هي المُشكلة الأكثر جوهريّة فيه. هارون يحيى ليسَ عالماً، ولا يُحاول حتى أن يتظاهرَ بأنّه عالم، الكارثة التي يرتكبُها هذا المؤلّف هي أنه لم يبدأ من المُربّع "صفر" ثم يمشي "بحثاً عن الحقيقة" حتى يصلَ إلى فكرة أنَّ التطور خديعة، بل هو يبدأ من المُربّع الأخير، حيثُ قرَّر قبل أن يكتبَ الحرف الأول من كتابه أن نظرية التطور هي خُرافة إلحادية، ثُمّ يبدأ يبحثُ من هناك عن طريقه نحو المُربّع الأول الذي أثبتَ منهُ مُسبقاً استنتاجه النهائيّ.

• كيفَ تنعكسُ النقطة السّابقة على الكتاب؟ تنعكسُ بأنَّ قسماً ضخماً مِنه، مُمثلاً بالفُصول الثلاثة أو الأربعة الأخيرة ورُبّما أكثر، مُنصبٌّ حصراً على إثبات وُجود ائتلافٍ عالميٍّ إلحاديٍّ شريرٍ من نوعٍ ما يُحاول إقناع العالم بالتطور وذلك لصرفِه عن الحقيقة، وهي الخلق، وبالطّبع الغاية النهائية للقضاء على التديُّن في العالم (لا-أحد-يعرفُ-لماذا). هذا الخِطاب غير مبنيٍّ على أي حقائق، وليست عليه أي إثباتات، أو أدلّة، أو حتى مُؤشرّات، بل هو نظرية خيالٍ علميٍّ خاصَّة بالمؤلف (الذي، كما تُلاحظين، كرَّسَ كتابهُ لمُحاربة نظرية علمية)، لكنّه لا يرى مانعاً من تخصيصِ قسمٍ مُحترمٍ من كتابه لها. أنا كمُسلمٍ لا أستطيع تقبُّل هذا الخطاب، لأنَّ هارون يحيى لم ينجح بإقناعي بوُجود مُشكلة بين الإسلام والتطور في المقام الأول، قبلَ أن يقفزَ لنظرياته الغريبة التي تأتي بعدَ ذلك.

• في الإجمال، "خديعة التطوّر" ليسَ كتاباً يحملُ أيّ حقائق علمية فعليّة. الكتاب كلُّه عبارةٌ عن مجموعة من نظريات المُؤامرة المُغلَّفة على شكل كتابٍ علميّ. يُحزنني جداً أنَّ شخصاً أعرفُه سمعني مرَّة وأنا أتحدث عن التطور، وكان قد قرأَ الكتاب، فقالَ من وحيِ ما عرفهُ منه: "ألم تنقرِض هذه النظرية بَعْد؟"، فقد أعطاهُ هذا الكتاب المُذهل الإيحاء بأنَّ المُجتمع العلمي على حافّة إجهاض هذه النظرية، مع أنَّ العالم الغربي فقدَ اهتمامهُ بمناقشة جوهرها مُنذ عشرات السّنين، لأنها الآن مُسلَّمة علميَّة.

• تُثبت الإحصاءات الحديثة أنَّ حوالي 97% من العُلماء يُؤمنون بنظريّة التطور (مصدر: https://en.wikipedia.org/wi... في المُقابل، تخيّلي حجمَ الكارثة في أنَّ كتبَ العلم الزائف التي تُحاولُ تفنيدها، والتي يتزعَّمها كتاب "خديعة التطور"، لا زالت تُبَاع بآلاف النسخ لدينا.

(تباً، لم أقصِد الإطالة إلى هذا الحد، اعتذاري لُكلّ من سبَّبتُ له الملل والشقاء بقراءة تعليقي :P)