كيف تعيش حياتك في ظل الشجاعة الإسبارطية

مدينتين متجاورتين، وصل كلاهما لأعلى مستويات الحياة في عصرهما، فقط لتزدهر واحدة، وتندثر أخرى.

في عمل الكاتب Stephen Pressfield باسم "Tides Of War" أو بالعربية "أمواج الحرب" يتحدث عن رؤيته الخيالية للتاريخ الإغريقي، يتحدث عن أحد أعظم الصراعات في التاريخ، الحرب بين أثينا واسبارطا، إثنتين من أعظم المدن الأوروبية.

على الرغم من كون التفاصيل المذكورة في الكتاب كانت من نسج خيال الكاتب، إلا أن تحريه للدقة التاريخية في الأحداث الكبيرة يجعله كتاباً مهماً لمعرفة أسباب انحدار أثينا، وانتصار اسبارطا في الحرب.

اسبارطا وأثينا: قصة مدينتين

اشتركت المدينتان في نفس الوحدة الجغرافية، ذات اللغة، وعبد سكانهما ذات الآلهة، ورغم ذلك كانتا مختلفتان بشكل جذري؛ اسبارطا الديموقراطية الأقرب للشيوعية، وأثينا الديموقراطية الإمبراطورية، اسبارطة التي سخرت الشعر والموسيقى والفلسفة في التدريب العسكري، وأثينا التي جعلت لتك الأمور قمة الوجود البشري، بين تلك الإختلافات الجذرية، ونقاط الضعف والقوة لكلا المدينتين، كانت أسباب انتصار اسبارطا.

في وقت الحرب، الفضائل التي تمتعت بها أثينا تحولت إلى رذائل، الحرية الشخصية تحولت إلى النرجسية، التقدم الإقتصادي تحول إلى الاحتكار، الحزم والإنضباط تحول إلى التراخي والتكاسل، الحكم الديموقراطي تحول إلى حكم العصابات.

كان فلاسفة أثينا واعين لهذا التحلل الذي أصاب مدينتهم بينما شاهدوا بأسى اندثار حضارتهم شيئاً فشيئاً.

الشجاعة الاسبارطية والفرق بين الجرأة والشجاعة:

يظهر ستيفن في كتابه وجهة نظره في الفرق بين الشجاعة والجرأة على لسان القائد الاسبارطي ليساندر على أبواب معركة نوبيم في خطابه الحماسي... مقدماً نصائح لكل من يقرأ الكتاب ليستخدمها في حياته، ليعيش على طريقة الشجاعة الاسبارطية... يمكن تلخيصها بعدة نقاط هامة هي الفاصل بين اسبارطا وأثينا، بين الازدهار والاندثار:

"نحن الاسبارطيين والبيلونيسيين، نملك الشجاعة، أعداؤنا يملكون الجرأة، نحن نملك الشجاعة وهم يملكون الجرأة، إنتبهوا إخوتي، هناك فرق واضح غير قابل لإعادة النظر"

الرجل الجريء متكبر، وقح، طموح... بينما الرجل الشجاع هادئ، ياخف الرب، ثابت.

بينما يرسم ليساندير خطاً واضحاً بين الجرأة والشجاعة، التصرف بجرأة قد يكون مفيداً في بعض الأحيان، حتى لرجل بالغ، أحياناً الإندفاع، أو حتى التهور، يكون ضرورياً لاقتناص فرصة قد لن تتكرر. ولكن حيثما وجدت الجرأة، يجب أن تصحب دوماً بالصلابة والشجاعة، الشجاعة يجب أن تكون الصفة المهيمنة على أخلاق الرجل.

لِمَ الشجاعة؟ هذا ما يتحدث عنه ليساندر في خطابه، موضحاً الفروق بين الرجال الذين يعتمدون فقط في تصرفاتهم على الجرأة والرجال الذين يتصرفون بشكل رئيسي بشجاعة.

سنستعرض أهم النقاط من خطاب ليساندر الحماسي التي تميز بين الرجل الشجاع، والرجل الجريء، وما تنتجه هذه الصفات المتضادة.

الجرأة هي التسرع والإنهزام، الشجاعة هي الثبات والتحمل

الإستراتيجية التي اتبعها جيش أثينا في حروبه المعادة كانت تعتمد على الجرأة، المعارك البحرية تعتمد على الحركات المخادعة، المخاطرات الجرئية، والمفاجئات، وعندما لم تكن الظروف لصالحهم كان الأثينيون ببساطة ينسحبون، أو يضربون الأعداء بسفنهم الحربية. كما يقول ليساندر " السفينة لا تحقق شيئاً في حفاظها على موقعها" بينما الاسبارطيون، كان عليهم الباقاء مستعدين دوماً للمعركة، الاشتباك مع العدو حتى عندما تكون الظروف ليست في صالحهم، هذا الاختلاف في الاستراتيجية كان سبباً رئيسياً في خسارة أثينا، الأثينيون لم يكونو مستعدين للصبر عندما لم يأت النصر سريعاً، بينما الاسبارطيون كانو مستعدين للحفاظ على مواقعهم، مهما طال الأمر.

ليساندر كان واعياً لأهمية الجرأة في البداية، فقد قام بتشكل أسطول بحري لجيشه المعتمد على الحرب الأرضية، قد قال أيضاً "الجرأة محرك عظيم، ولكن هناك حد عنده يتقهقر هذا المحرك، نحن تلك الصخرة التي ستحطم ذلك المحرك، صخرتنا هي الشجاعة، إخوتي، الشجاعة ستصمد والجرأة ستتحطم، اعتنفوا هذه الحقيقة ولا تنسوها أبداً".

الجرأة هي الإندفاعية الحمقاء، الشجاعة هي التفكر والإستعداد

عندما قام القائد الأثيني باستفزاز الجنود الإسبارطيين قبل المعركة، ابتلع الجنود الإسبارطيون الطعم، أرادوا الهجوم على عدوهم، كانت روحهم المعنوية عالية، إنضباطهم ليس له مثيل، ثقتهم كانت مطلقة، وشعروا بالاستعداد لمواجهة الخصم، ولكن ليساندر لم يأمر بالهجوم، تاركاً جنوده في قلق وإحباط.

فسر ليساندر لهم ان الصبر الذي تقدمه الشجاعة لا يستخدم فقط في تحمل العقبات التي تبدأ مع بدأ المعارك، وإنما في إنتظار اللحظة المناسبة للهجوم في الوقت المناسب. كان ليساندر يعلم أن القوات الأثينية ما تزال أقوى من الإسبارطية، أن التدريب البحري المتقدم لا يزال يلزم جنوده، كان عليه أن يضمن عند ذهابه للمعركة أنه سيعود منتصراً، علم أن الموقف كان بحاجة لشجاعة التحكم بالنفس.

كان تصرف ليساندر متوافقاً مع ما قاله الفيلسوف ارسطو، أن الشجاعة هي الخط الرفيع بين التهور والجبن.

الجبان يبالغ في تقدير خطورة الأمر، ولذلك لا يواجه مطلقاً، أو يؤجله إلى ما لا نهاية، يجب عليه أن يقرأ كتاباً، القليل من البحث، القليل من التمرين، قبل أن يبدأ بالتصرف.

المتهور يقلل من خطورة الأمر، يندفع بدون تفكير، وكنتيجة لاندفاعه ينقلب خائباً، ليس لديه المهارة والثقة اللازمة للنجاح، وقد ينهزم ويستسلم بعد اكتشافه للتضحية اللازمة للنصر.

الشجاع يعلم أن عليه تفادي هذا التطرف، يعلم أنه هناك وقت للجرأة، ووقت للصبر، يعلم أنه يجب أن يجمع الثقة والخبرة التي تلزمه للاستمرار، ولكن أيضاً في بعض الأحيان، عليك التصرف والتعلم على الطريق.

المحاربون الاسبارطيون ظنوا أنه من المعيب القتال بغضب وهيجان، ذهبوا للمعركة بعزم هادئ، ثقة، وشجاعة التحكم بالذات.

الجرأة هي الطمع، الشجاعة هي القناعة

الأثنيون كانوا امبراطوريين توسعيين، كانت حاجات أثينا ملباة من خلال الجزية التي تدفعها المدن التي تسيطر عليها، وفي حال عدم الدفع كان العقاب الأثيني يأتي قوياً وسريعاً، بينما كان الاسبارطيون سعيدون في مدينتهم الصغيرة، نمط حياتهم البسيط البعيد عن الترف كان يدفعهم بعيداً عن تشكيل امراطورية، لم يكن لديهم الرغبة في العثور دائماً على الكنوز والأموال لتنمية حضارتهم، كانت لديهم شجاعة القناعة، القدرة على قول "يكفي!" وهو ما جعل الكثير من التاريخيين يشيدون بهذه الخصلة الشجاعة، التي جعلت الحكومة الجمهورية في اسبارطة الأكثر دواماً كحكومة ديمقراطية في التاريخ البشري.

الجرأة هي التكبر، الشجاعة هي التواضع

على الرغم من كون الشجاعة كانت متميزة كصفة في ساحات المعارك عند الإغريق، إلا أنها كانت واضحةً أكثر في المنازل الإسبارطية. في سن السابعة، الصبيان الإسبارطيون يدخلون التدريب العسكري الذي يركز على جعلهم قساة، مرتدين فقط ما يستر اوساطهم في الصيف والشتاء، متدربين دائماً على القتال. فقد قيل أن الرجل الاسبارطي هو الوحيد الذي أحضرت له الحرب راحة من التدريب للحرب.

علم الاسبارطيون ان النصر لا يحرز في داخل المعركة وانما في المهام والتدريبات الصغيرة التي تقود للمعركة، وهذا لا يحتاج للشجاعة في الأوقات الخاصة في المعارك، وانما الشجاعة اليومية، شجاعة الإنضباط.

الجرأة تسعى للمجد، الشجاعة تسعى للشرف

في سن العشرين يصبح الاسبارطي مؤهلا للخدمة العسكرية، في هذه النقطة عليه أن ينضم إلى المأدبة -مجموعة من 15 شخصاً يتناولون الطعام على مائدة واحدة- يتعلم فيها الاسبارطي الاعتماد على اخوته، بينما يتقاسمون الخبز، يصبحون متساوين، يتشاركون الطعام والشراب، الاخطار والعقبات.

في البحث عن الشرف، الدعم، وحماية أخوتهم، عاش الاسبارطيون لهدف أسمى من خدمة الذات، على النقيض، شعروا أن أعدائهم عاشوا لخدمة مصالحهم الذاتية، كما قال ليساندر، ان الجرأة تتحدد بالطموح الشخصي، الرغبة للحصول على الثروة والمجد الشخصي.

الجرأة هي الكفر، والشجاعة هي تقديس المقدسات

بانتصاراتهم المتكررة، ظن الاثينيون أنهم هم الآلهة، اقتنعوا تماماً انهم هم المسؤولون عن مصائرهم، وبذلك قد بدأوا بتحدي الآلهة، قبل ليالٍ من أحد المعارك تم قطع رؤوس كافة الآلهة في المدينة، قد تبدو هذه مزحة للكثير، ولكن لأهالي أثينا بدا الأمر وكأنهم قد أصبحوا أعظم من الآلهة، وأنهم ليسو بحاجة لمساعدتهم.

بينما الاسبارطين في الطرف المقابل، عرفوا انهم مهما قاموا بالتجهيزات والاستعدادات للمواجهة، في بعض الأحيان، النتائج لن تكون في تحكمهم، الآلهة والقدر هم من يوزعون النجاح والفشل كما يشاؤون.

عندما يفشلون، سيتقبلون الأمر دون نحيب، وعندما ينجحون، لن ينفخوا انفسهم بالكبر، فهموا أن كل ذلك هو عطاء من الآلهة. وباستطاعة الآلهة أخذه عنهم في أي وقت كان.

حتى في وقت التعددية هذا، الأيمان بوجود قوة أعظم من النفس، ضروري لبقاء النفس متواضعة، شجاعة الأيمان والخشوع تعلمنا أنه مهما كنا راغبين في أمر ما ومصرين على تحقيقه، الأقدار والآلهة قد تجعل المآل مختلفاً.

وفي النهاية:

الشجاعة هي الحاجز الوحيد أمام تفكك الإنسان، وتفكك المجتمع

يمكنك أيضاً أن تكون شجاعاً، ليست الشجاعة فقط في المعركة، الشجاعة في الإنتصار كل يوم على معاركك الشخصية، أن تعمل، أن تحافظ على صحتك، أن تسدد ديونك، أن تكون آرائك ومعتقداتك بنفسك، أن تقدم لمجتمعك دون التفكير بأن اسهامك الصغير لن يؤثر في هذا العالم... الشجاعة هي الصدق... الشجاعة هي الإخلاص... وعندما يكون الفرد في أمة ما شجاعاً... لن تندثر.

المصدر: