( 1 )

كلمة ( التطوّر ) كلمة مستفزة جداً لدى البعض ، ويعتبـرها خطاً أحمـر .. بينما يعتبـرها الآخرون هي أساس التجربة الإنسـانية غير القابلة للتشكيك ..

 لذلك ، أبدأ بأن أقول بأن صحة نظرية التطور أو عدم صحّتها ، ليست أساس هذا الموضوع .. وإلا كنت وضعت المساهمة في إحدى المجتمعات في I/O الذي تناقش هذه القضية إثبـاتاً أو دحضـاً ..

لكن ثمة معنى معين أثـار نظري منذ فتـرة طويلة كلمـا قرأت في مجل ( علم النفس التطوّري ) بخصوص الفرق بين انسان ( النياندرتال ) و ( الهوموسبيان ) .. يجعلني دائماً أفكـّر فيه بزاوية مختلفة تماماً ، ويتخذ دائماً مقاربة - مجازيّة - توضح الفرق بين ( حالتنا وحال الغــرب عموماً ) ..

ربما تكون مقاربة غريبة ، ولكنها دائماً ما تثير انتبـاهي ، كلمـا قرأت عن هذا الموضوع ..

======

( 2 )

مبدئياً ، التطوّر يقول أن إنسـان ( النياندرتال ) كان قبل ( الهوموسبيـان ) .. وكان - النياندرتال - ذكيـاً ، وعقله بنفس اتساع عقل الهوموسبيـان ، وله ادراكات واسعة ، ولا يختلف أبداً عن الهوموسبيـان في كل شيء تقريباً ..

إلا في أمر واحد فقط ..

كان السلوك الرئيسي لإنسـان - النياندرتال - هو البقاء في جماعات مغلقة بالكامل تركز بشكـل أساسي على ( صلة القـرابة والتشـابه ) ..

وكان إذا حدث ان عددهم ازداد ، و يبدأ يحدث أدنى إختلاف داخلهم .. تلقائياً ينفصلوا الى جماعات وفرق أخرى أصغر قائمة بشكل كامل على مفهوم ( القرابة ) و ( التشـابه الكامل )..

وغالباً كان يصـل الامر الى اندلاع حروب فيما بينهم ، رغم انهم من جماعة واحدة مركزية ..

 ==============

( 3 )

 بظهـور ( الهوموسبيان ) الامر اختلف تماماً ..

نفس مقدار الذكـاء تقريباً ، لا فرق .. ولكنه السلوك الرئيسي لإنسان الهوموسيبيـان تطور نفسياً واجتماعياً ، أدى إلى خلق جماعات أكبــر تتجاوز صلة القرابة والتشابه المحدود ، الى مفاهيم إجتماعية أكبـر وأوسع وأشمل ..

فبدأت أخيراً مفاهيم الأمم المليونية في الظهــور ، التي ادت لتكوين الحضـارات القائمة على مجتمعات تستوعب الآخر رغم الخلافات ..

وهو الامر الذي يعوّل عليه دائماً علماء النفس التطوّري انه كان السبب الرئيسي في بدء الحضـارة الإنسـانية بمفهومها الواسع ، وظهــور إنجازات كبيرة قديمة ، مثل بناء الأهرامات ، وسور الصين العظيم ، الخ..

وغيرها من الانجازات التي كانت مستحيل يتم إنجازها بعقليـات النياندرتال ( التي لها نفس الذكـاء العقلي ، ولكن محدودة سلوكياً في تقبل الآخر ) ..

 =============

( 4 )

لو أسقطنا المقارنة على الفرق بيننا وبين الأمم الأخرى ، الغرب تحديداً - بإعتباره الأمة المنافسة الرئيسية لنا تاريخياً - ، ربما تجدها شبه متطابقة مجازاً ..

نحن - كعــرب - نعيش بعقليـة ( النياندرتال ) السلوكية والنفسية :

** مجموعة من الفرق الصغيـرة المتفرّقة بشكل ديني طائفي أو بشكـل قومي .. وكل فرقة تحارب الاخرى ، إما لدواعي الاختلاف العرقي او الديني او الطائفي أو القومي .. وإذا زادت الفرق ( داخل الفرقة الواحدة ) ، انفصلت الى فرق أخرى تحارب بعضها..

** بينما الغرب ، بعد رحلة طويلة - ومريرة ومؤلمة - من التطوّر ، يبدو أنهم وصلوا للحياة بعقلية ( الهوموسيبيان ) ..

تجاوزوا أخيراً فكـرة الدول المجزّاة المنفصلة ، أو الجماعات المحددة المنغلقة على نفسها ، وأسسوا لمفهــوم أوسع وأشمل اسمه ( الحضارة الغربية ) التي تشمـل عدداً كبيراً من الدول ، لديهم ثقافات ولسانيات وميول مختلفة ، ولكنها تتجـاوزها لمفهوم شامل للبناء والحضـارة ..

نفس التطور الاجتمـاعي الذي فرّق الهوموسيبيـان عن النياندرتال ، وجعلهم يتقبلون الآخرين مهما كانوا مختلفين ، ويشاركوهم في بدء بناء الحضـارة على مستوى أوسع وأشمـل بكثيــر من صلات القرابة أو التشابه..

==========

( 5 )

الطريف - وربما المؤلم - ان العكس تماماً كان هو السائد منذ 1000 سنة ..

كنا - كعرب ومسلمين - نعيش بعقلية الهوموسيبيان المكوّن للحضارة المنفتحة على الآخر ، والمتقبّــلة للخلاف ، والمنفتحـة للحوار والتجديد والبحث والفهم وضم الآخر للبناء .. بينما كان الغرب يعيش بعقلية النياندرتال المنغلقة الرافضــة للآخر بإستمـاتة ..

حالياً ، نحن نعيش بعقلية ( سوبر نياندرتال ) إذا أردتم رأيي .. النياندرتال نفسه قد يشعر ببعض الأسف تجاهنـا ..

يكفي فقــط أن نشعر أن هناك بعض الإختلاف فيما بيننا ، وأن ( الآخر ) غريب في تفكيـره وشكله وطريقة فهمه للواقع عنا .. لنعــلن حرباً ضارية مفتوحة ، تبدأ بتبادل التكفير والسباب والشتائم ، ولا تنتهى بالحروب والقصــف والذبح والسلخ ..

والأطرف ، أن البعض سيتجـاهل تماماً هذه المقاربة المجازية ، وسيتفرغ في تأييد أو الهجوم على نظرية التطور ، رغم أنني ذكـرت في بداية الموضوع أن المقاربة رمزيّــة ، وأنها ليست في مجال مناقشة ( نظرية التطور ) نفسها ، وإلا كنت وضعت المساهمة في مجتمع التطور ..

ولكن هكذا تسير الامور في كل مرة :)

  • مصدر :

لقراءة المزيد بخصوص علم النفس التطوّري ، يمكنك اللجوء لكتاب ( علم النفس التطوّري ) لمؤلفه ديفيد باس .. متوافر له ترجمات عربية ..