( 1 )

طبيعي عندما تعمل في مجال ما ، أن تحاول أن تفهم كل تفاصيله ..

وكان المجال الذي عملت فيه فترة طويلة هو مجال مزيج من إعلام وتدوين وتفاعل مع جمهـور عريض بشكل افتراضي أو واقعي .. كنت محظوظاً جداً بأنني أتعامل مع هذا القدر الهائل من الشرائح .. العقليات .. اللهجات العربية .. طبائع الناس ، وطرق تفكيـرهم.. شباب وكبار السن وفتيات ونساء وأمهات ومراهقين ..

لذلك ، وبعد خبـرة لا بأس بها فى مجال العمـل الإعلامي الثقافي المكتوب ، أصبحت أعتبـر نفسي قد اقتربت من السبب الأساسي لكـل المهازل والهزائم والمشاكل التي نعيشها كعـرب ( بشكل جماعي ) ، مع مراعاة الاختلافات الفردية لكل فرد على حدة..

السبب اننا نعاني من متلازمة ( كراهية المعرفة ) والميل الدائم لمفهوم الـ Shortcut في معارفنا الإنسـانية الذاتية المكوّنة لشخصيـاتنا ..

==========

( 2 )

بعض الناس يكرهون المعــرفة بجنون :

  • يكرهون المعرفة لأنها مُعقّــدة .. كل المعرفة مُعقّــدة بلا استثناء ، وتراكميـة ، ولها مليون زاوية للفهم والتحليل ..

  • وبعض الناس يكرهون المعرفة لأنها تضع عبئاً لا يمكنهم تحمّله على قدراتهم الضعيفة على إستيعاب الأفكـار وتحليلها وتقييمهــا ، خصوصاً في مجالات الحيــاة والدين والفلسفة والإنسـانيات ..

فالنتيجة ، هي اللجوء الى الطرق المختصــرة :

إجعــل الآخرين يفكّــرون ، ونحن نكتفــي بالتصديق ، ومن ثمّ التنفيــذ .. بشــرط ، أن يكون ( الآخر ) يسير على مزاجي الشخصي والإجتمـاعي ، والبيئة التي تربّيت عليها ، ووعيت الدنيـا من خلالها ..

اجعل الشيخ والقسّ يفكـّر ، ونحن ننفــذ مايقوله ، بلا سعــي للمعرفة والفهـم على الإطلاق ..

إجعل المُنظــر للإلحاد يفكّــر ويخترق المجاهل ويضع نظريات ، ونحن نتبعـــه لمجرّد أنه يسيــر على هوانا ، ولأنــه ( يقول كلام صعب ومهم جداً ) يعجبنــا رنينــه ، بدون أن نفهمه..

الخزعبلات ، والتخلف ، والحماقة ، والهبَل ، والهطَــل ، والخيــالات الوهمية ، والتكفيـر .. كلهـا من وراء حــالة الـ Shortcut المأساوية هذه تحديداً ..

وهي السبب الرئيس لمفهوم الأزمات الذي نعيشه كقــوم اسمهم ( العرب ) ..

=========

( 3 )

المشكلة ان هذه الحالة من كراهيـة المعرفة ، تسير بالتوازي مع قانون وجودي فرضته الحيـاة ، أنها - الحياة - تفصيلية جداً وغير مختصرة ..

الحياة مليئة بالتفاصيل بشكل يدعو للجنون ، ولا تقدم خيـار الـ Skip العزيز الذي يقدمه لنا الواقع الافتراضي ..

تجاهُل التفاصيــل ، وكراهية المعرفة والبحث الذاتي ، هي الشيء الأساسي الذي تحوّل الإنسان بالتدريج لكــائن أدنى منزلة ، يمكن ركــوبه وبرمجته بسهولة تــامة..

  • هو نفس المدخـل الخطير الذي يجعل الإنسـان قابلاً للبـرمجة أن يفجّــر نفسه في سوق للخضــار والفاكهــة ويقتل 300 شخص ، مقتنعـاً أنه سوف يدخل الجنـة بعدها .. ليس لأنه مجنون أو أخرق أو احمق .. بل لأنه ( لا يريد ان يعرف ) ، لا يريد الدخول في تفاصيل .. غيره فكّــر له ، وهو يميل له .. فينفّـذ مباشرة ..

  • هو نفس المدخل الخطير الذي يجعـل شخص ما لحد الآن مقتنع ان الأرض مسطحة ، ويدافع عن هذه الفكـرة دفاعاً مريراً .. لا يريد أن يعرف .. لجأ لأقرب شخص وجد أنه متماشي مع طبيعة تفكيـره المنغلق ، أو بيئته التقليدية ، فإرتاح لكلامه ، وقرر أن يحارب العالم كله دفاعاً عن فكــرة مضحكة ..

  • هو نفس المدخل الذي يجعل الإنسان قابلاً للإقنـاع أن الزنجبيل والقِـرفة يعالجان السرطان وأن الأدوية الحديثة غير فعّالة ، ويتجنبها ولا يلقى لها بالاً حتى يهلك .. لأن شخص آخر ( يميل له ) أقنعه ان القِـرفة تعالج السرطان ..

  • هو نفس المدخل الذي يجعــل بعض الناس مقتنعين تماماً أن ( ديناميكية الطاقة العصبية ) علم مهم جداً .. أو إن الأنظمة العسكــرية هي الأفضل .. أو ان العفاريت هي سبب معاناته .. او إن الخلافة من أصول الدين وليس الفقهيـات .. إلخ ..

==========

( 4 )

على المستوى الجماعي ، نحن لا نريد أن نعرف .. ليس لدينا الوقت أن نجلس ، ونبحث بحثاً موسّعا ، أو نشتري كتباً ، أو نطالع مراجعاً .. هي كلها متاحة ، متوافرة أمامنا .. سهلة جداً الحصول عليها .. ولكننا لا نريد ..

لا نسعــى للمعرفة أصلاً لأنها ثقيلة مملة ، ونلجـأ لمتلازمة ( الطرق المختصرة ) في تلقى الاوامر وتنفيذها طول الوقت ، إستنـاداً على العصبة والطائفة والموروث الاجتماعي والطائفي ، إلخ ..

فقط هذا ما وجدنا عليه آباءنا ، أو بيئتنا ..

لأننا لو عرفنـا ، سنضطـر أن نجدد أفكـارنا .. فنصبح في أنظـار الآخرين ( الذين لا يطيقون المعرفة ) مُتّهميــن بأننا ننسلخ عنهم ..

وهذا هو السبب تحديداً الذي يجعل الفرد العربي واسع الثقافة والإطّـلاع يُعامل بإعتبـاره كائن أجرب .. يُتّهم بالتحذلق طوال الوقت .. يتم التشكيك في نواياه طوال الوقت .. يتم التعامل معه بحذر طوال الوقت ..

منهجية الـ shortcut هذه التي تعيشها المجتمعات العربية ، هي السبب تحديداً التي تجعلنا نعايش مشكلات مأساوية وجودها أصلاً غير مبرر .. كان يمكن حلها ببعض البحث ، وشراء بعض الكتب لتصفّحها على المقهى ، أو تطوير مهارات البحث على جوجل ..

الموضوع ليس له علاقة بإنتشـار الجهــل بسبب نقص موارد المعرفة .. إنمـا المشكلة هي رفضنـا للمعـرفة أصلاً ..