هل يمكن أن يكون هناك سلام في عالم لا يزال يعجّ بالظلم؟ مقولة مارتن لوثر كينج الابن الشهيرة "السلام الحقيقي لا يعني مجرد غياب التوتر، بل هو حضور العدالة" تلقي بظلالها على هذا السؤال، فهل حقّاً يمكن تحقيق السلام الدائم دون تحقيق العدالة؟ سؤال يطرح نفسه بقوة في ظلّ التحديات التي تواجه مجتمعاتنا المعاصرة.

تخيّل مجتمعاً خرج للتو من أتون حرب طاحنة. الشوارع هادئة والمدافع سكتت، لكن الجراح لم تندمل بعد. في البلدان التي شهدت فترات متواصلة من الصراع أو القمع أو انتهاكات حقوق الإنسان، قد لا يكون نظام العدالة القائم مجهزاً لتوفير سبل الانتصاف الكافية فيها.

في أعقاب فترات متواصلة من الصراع، غالباً ما تكون المؤسسات السياسية والقانونية متواطئة في الفظائع أو غير مجهزة بشكل جيد لضمان المساءلة. وفي مثل هذه الأوقات، قد تكون السلطات القضائية وأنظمة العدالة الجنائية ضعيفة أيضاً، أو لديها موارد قليلة، أو تفتقر إلى الثقة العامة.

من هنا نشأت العدالة الانتقالية كآلية للمجتمعات التي تمر بمرحلة ما بعد الصراع من خلال تلبية احتياجاتها الفورية والطويلة الأجل أثناء تعافيها من العنف المنهجي. غالباً ما يندرج مفهوم العدالة الانتقالية ضمن العلوم السياسية ويندرج أيضاً ضمن دراسات حقوق الانسان، ويرى البعض أن العدالة الانتقالية ما هي إلا أحد فروع القانون الدولي، لذا حظي هذا المصطلح باهتمام الأكاديميين وصناع القرار وحظي بالاهتمام في المجالين السياسي والقانوني وخصوصاً في المجتمعات الانتقالية، ما جعل مصطلح العدالة يتردد على نطاق واسع في الدول التي تمكنت شعوبها من الإطاحة بنظم اتسمت بالدكتاتورية والقمع والفساد.

وبدأ البحث الأكاديمي الحقيقي لهذا المفهوم يتبلور أكثر وأكثر بعد التغيرات الحادة في أوروبا الشرقية والانتقال الى مرحلة الديمقراطية في أمريكا اللاتينية وإفريقيا. يُرجع بعض الباحثين أصل مفهوم العدالة الانتقالية إلى محاكم نورمبرغ 1945، حيث عمدت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية إلى توسيع نطاق آليات القانون الجنائي في حينها، لتتمكن من محاكمة قيادات عسكرية وسياسية بعينها في النظامين النازي والياباني، مع التركيز على الجرائم التي ارتكبت، وليس من منطق انتمائهما فقط وقد جنّب هذا التوجه بعض أركان النظامين من المتابعة القضائية، لكنه مكّن من إبراز الجانب الجنائي والحقوقي في تجاوزات الأنظمة المهزومة وذلك كان له أثر حاسم في تعزيز الوعي الحقوقي على المستوى الدولي. لذلك لم يعرف مفهوم العدالة الانتقالية ازدهاره ويصبح حقلاً للبحث في القانون الدولي، إلا مع تجارب الانتقال الديمقراطي في أوروبا وأمريكا الجنوبية خلال سبعينات وثمانينيات القرن العشرين، فقد صاحبت محاكمات أعضاء النظام العسكري في اليونان 1975 والأرجنتين 1983 تعبئة حقوقية دولية واسعة وتمّ تأجيج ما انكشف من انتهاكات ارتكبتها تلك الأنظمة خلال فترة حكمها. وقد فرضت هذه التعبئة منح أهمية خاصة للجانبين الجنائي والحقوقي في عملية التحوّل السياسي، وعدم اقتصار العملية على متابعات فردية تبنى على دعاوي فردية أو اجتماعية محدودة. فالحقبة من أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن الماضي أعطت زخماً وحافزاً جديداً للعدالة الانتقالية خصوصاً في أمريكا اللاتينية ودول شرق ووسط أوروبا وكذلك إفريقيا في أعقاب الحرب الباردة.

تعتبر دراسة التجارب الدولية في مجال العدالة الانتقالية أمراً بالغ الأهمية، فهي توفر دروساً قيّمة يمكن الاستفادة منها في تصميم وتنفيذ آليات العدالة الانتقالية في سياقات وطنية مختلفة. ومع ذلك، يجب التأكيد على أن كل تجربة فريدة من نوعها، وأن تطبيق أي نموذج يحتاج إلى تكييفه مع الظروف المحلية والخصوصيات الثقافية والاجتماعية. فآليات وتطبيقات العدالة الانتقالية تختلف باختلاف السياق الثقافي والاجتماعي والسياسي لكل دولة. فما يناسب دولة ما قد لا يناسب أخرى، وذلك بسبب الاختلافات في طبيعة الانتهاكات، وهيكل المجتمع، والقوى السياسية الفاعلة.

على سبيل المثال تميزت عملية الانتقال الديمقراطي في ألمانيا الديمقراطية بسرعتها وسلاسة تنفيذها. ففي غضون فترة زمنية قصيرة، تمكنت ألمانيا من الانتقال من نظام ديكتاتوري إلى نظام ديمقراطي، وذلك بفضل التزام الشعب الألماني بالتغيير والتزامه بالمبادئ الديمقراطية. وقد ساهمت هذه العملية في توحيد البلاد وتجاوز الانقسامات التي عانت منها لعقود. وشهدت إسبانيا في أعقاب فترة حكم فرانكو الدكتاتوري تحولاً ديمقراطياً سلساً نسبياً. ومع أن البلاد عانت من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان خلال فترة الحرب الأهلية وحكم فرانكو، إلا أنها اختارت نهجاً مختلفاً عن العديد من الدول التي مرت بانتقالات مماثلة. بدلاً من التركيز على محاسبة مرتكبي الجرائم في الماضي، أولت إسبانيا اهتماماً كبيراً ببناء مؤسسات ديمقراطية قوية وضمان الاستقرار السياسي.

وشهدت جنوب أفريقيا، بعد عقود من الصراع العنصري، تحولاً ديمقراطياً فريداً من نوعه. بدأت هذه العملية في التسعينيات بمفاوضات سياسية بين الحكومة والحركة المناهضة للفصل العنصري، والتي أسفرت عن إصدار دستور انتقالي وإجراء انتخابات حرة ونزيهة.

على المستوى العربي كانت فكرة العدالة الانتقالية تدخل الأدب الحقوقي والسياسي العربي بدءاً من المغرب مروراً بمصر وصولاً الى بلدان المشرق العربي وهو أمر مرتبط بانتشار الثقافة الديمقراطية بشكل عام والثقافة الحقوقية بوجه خاص، لاسيما عند انبثاق عدد من مؤسسات المجتمع المدني وانتشار نشاطاتها وفعالياتها.

على غرار التجربة الجنوب أفريقية في مجال العدالة الانتقالية، أنشئ المغرب في عام 2004 "هيئة الإنصاف والمصالحة". هدفت هذه الهيئة إلى تحقيق المصالحة الوطنية والكشف عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي وقعت خلال فترة حكم الملك الحسن الثاني، دون اللجوء إلى المقاضاة الجنائية للمسؤولين. وقد اعتبرت الهيئة أن جبر الضرر والتركيز على المصالحة هما السبيل الأمثل لتحقيق الانتقال الديمقراطي في المغرب.

على مدى ثلاثة عشر عاماً، شهدت سوريا صراعاً دامياً ارتكبت فيه جميع الأطراف المتورطة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وقد أدت هذه الجرائم إلى معاناة إنسانية هائلة، وشملت عمليات التهجير القسري والاعتقال التعسفي والاختطاف والتعذيب، ما أثر بشكل كبير على حياة المدنيين، وجعل من سوريا مثالاً صارخاً على الحاجة إلى عملية شفاء مجتمعي شاملة تتجاوز مجرد وقف إطلاق النار. فالجراح الناجمة عن هذا الصراع تتطلب معالجة عميقة وجذرية.

اليوم بعد سقوط النظام واستلام القوى الجديدة لمنافذ السلطة يشهد المجتمع السوري حالة من الهدوء الحذر، مصحوبة بمجموعة من التساؤلات حول مستقبل البلاد. فما الذي يحدث لمجتمع يخرج من نفق الظلم والقمع؟ كيف يمكنه أن يشفي جراحه ويضمن عدم تكرار المأساة؟ هذا السؤال يطرح نفسه بقوة في سياق العديد من المجتمعات التي عانت من صراعات وحروب، ومن بينها سوريا.

تمثل العدالة الانتقالية أداةً حيوية لتحقيق المصالحة وإعادة البناء في سوريا. فبينما تركز العدالة التقليدية على الجرائم المعاصرة، تتعمّق العدالة الانتقالية في جروح الماضي لتستكشف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتسعى إلى معالجة آثارها النفسية والاجتماعية والسياسية.

غالبًا ما يتبادر إلى أذهان الكثيرين بعد سقوط الأنظمة الاستبدادية فكرة الانتقام الجماعي كنوع من العدالة الفورية. إلا أن هذا الرأي يتعارض جذرياً مع مفهوم العدالة الانتقالية. فبينما يسعى الانتقام إلى فرض العقاب دون مراعاة الإجراءات القانونية، تسعى العدالة الانتقالية إلى تحقيق العدالة بطريقة منضبطة ومنظمة، تحترم سيادة القانون وحقوق الإنسان.

وبالحديث عن القانون لابدّ من التنويه إلى أن الانتظار الطويل للإجراءات القانونية، والتحديات التي تواجهها هذه الإجراءات، قد تدفع البعض إلى السعي إلى العدالة بأيديهم وهذا ما نشاهده في مسرح الأحداث في سوريا. مع كامل اليقين بأن هذا النهج يؤدي إلى المزيد من العنف والفوضى، ويقوّض أهداف العدالة الانتقالية التي تهدف إلى بناء مجتمع سلمي وعادل.

تعتبر عملية تحديد الضحية في سياق العدالة الانتقالية السورية عملية معقدة تتطلب نظرة متوازنة وشاملة. فبينما ركّز النظام على سردية محاربة الإرهاب لقمع الثوّار والمتظاهرين، سلّطت سرديات أخرى الضوء على معاناة المدنيين والانتهاكات من عمليات التهجير القسري والاعتقال التعسفي والاختطاف والتعذيب التي قام بها النظام.

ولتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا، يجب على أي جهود أن تتبنى نهجاً شاملًا يأخذ في الاعتبار جميع الآراء ووجهات النظر، ويسعى لفهم أعمق لأسباب الصراع وآثاره.  فمسألة تحديد الضحية لها خصوصية شديدة، إذ أن التحيز لسردية واحدة قد يحرم فئات واسعة من الاعتراف بمعاناتهم. كشباب الخدمة الإلزامية مثلاً، يمثلون فئة من ضحايا الصراع، رغم مشاركتهم غير الطوعية في الحرب كجنود في جيش النظام السابق.

إن تحقيق المصالحة الوطنية يتطلب بالضرورة الاعتراف المتبادل بمعاناة جميع الأطراف، والتخلي عن منطق الاتهامات المتبادلة. فجميع الأطراف، دون استثناء، تحمل جزءاً من المسؤولية عما حدث في الماضي. هذا الأمر يطرح تساؤلاً حريصاً: من يحق له تحديد الضحية والجاني في سياق تاريخي شهد تحولات متسارعة في المواقف والتحالفات، خاصة وأن الكثير من أصحاب السلطة اليوم كانوا بالأمس يُتهمون بمواقف متطرفة.

بينما يُنظر إلى العدالة الانتقالية تقليدياً على أنها عملية تُفرض من الأعلى، فإن التجارب العالمية الحديثة تشير إلى نهج جديد قائم على المشاركة الشعبية. ففي هذا النهج، يتم تمكين المجتمع المدني والمجموعات المتضررة من تحديد الضحايا والمستفيدين من عملية العدالة الانتقالية، وذلك من خلال هياكل تشاركية منظمة وواضحة الأهداف، فعلى الرغم من وجود مبادرات فردية لتعقّب مرتكبي الجرائم في سوريا منذ عام 2011، إلا أن ما تحتاجه البلاد هو إطار قانوني مؤسّسي لآليات العدالة الانتقالية. إن إنشاء هيئات قضائية دولية مستقلة ومحايدة هو الخطوة الأولى نحو تحقيق العدالة، ومحاسبة جميع مرتكبي الجرائم من جميع الأطراف، بما في ذلك الجماعات المسلّحة التي تقود المشهد السوري اليوم والتي ارتكبت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. كما يجب تحييد الأفراد الذين لم تتلطخ أيديهم بالدماء وحمايتهم من الانتقام على أساس طائفي وإشراكهم في بناء سوريا جديدة.

 لا يمكن تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة في سوريا دون تحقيق العدالة. فمحاسبة الجناة على جرائمهم هي شرط أساسي لشفاء جراح الماضي، وبناء ثقة جديدة بين أفراد المجتمع. إن إفلات الجناة من العقاب سيؤدي إلى استمرار الدائرة المفرغة للعنف، ويحرم الضحايا من حقهم في الإنصاف.