لماذا هذا الجدل العقيم؟
حسناً، لنكف عن المجاملات. الفنون العربية اليوم في مأزق، ونحن عالقون في جدل لا ينتهي حول الأصالة والحداثة وكأنهما طرفا معركة مصيرية. هل يجب أن نبقى أوفياء لتراثنا العريق، أم نلقي به جانباً وننغمس في الحداثة بلا قيود؟ ولماذا نتصرف وكأن العالم ينتظر قرارنا بينما هو يمضي قدماً بلا اكتراث؟
بكل صراحة، هذا الصراع وهمي. الفن العربي لم يكن يوماً ثابتاً أو محصوراً في قوالب جامدة، بل كان دائماً متجدداً، يمتص التأثيرات ويعيد تشكيلها برؤية خاصة. المشكلة أننا اليوم لا نبدع، بل نكرر إما بإخلاص ممل أو بانبهار طفولي بالغرب. إذن، السؤال الحقيقي ليس: "أصالة أم حداثة؟" بل: "متى نتوقف عن التردد ونبدأ في إنتاج فن حقيقي؟"
التاريخ: هل هو تراث أم عبء؟
العرب ليسوا هواة تقليد، بل كانوا في يوم ما رواد التجديد. في العصر العباسي، لم يخجل الفنانون من استلهام الفنون الفارسية والبيزنطية، لكنهم لم يكونوا مجرد مستوردين، بل محولين ومبتكرين. في الأندلس، لم يكن المزج بين التأثيرات الإسلامية والإسبانية والإفريقية دليلاً على الضعف، بل كان قمة الذكاء الفني.
لكن الآن؟ نحن إما نتعامل مع التراث كتحفة مقدسة لا تُمس، أو كعبء يجب التخلص منه لنواكب "العصر الحديث". لا أحد يسأل السؤال الأهم: كيف نحول هذا الإرث إلى نقطة انطلاق بدلاً من أن يكون مجرد ذكرى؟
الفن والهوية: هل نحن خائفون من التغيير؟
يحب البعض التشدق بعبارات مثل "الفن العربي يعكس هويتنا"، لكن ماذا تعني الهوية أصلاً؟ هل هي مجموعة أنماط بصرية وصوتية يجب أن تبقى ثابتة إلى الأبد؟ أم أنها شيء متغير، يتشكل ويتطور كما فعلت كل الثقافات العظيمة؟
- الموسيقى التقليدية رائعة، لكن هل يكفي أن نعيد عزف الموشحات كما هي دون تطوير؟
- الخط العربي فن بديع، لكن لماذا نصرّ على إبقائه محصوراً في المساجد والمتاحف؟
- العمارة الإسلامية نموذج للعبقرية، لكن لماذا نجد أن أغلب المدن العربية الحديثة تفتقر لأي طابع فني مميز؟
الخوف من التغيير هو العدو الحقيقي. لا أحد يقول: "لنأخذ هذا الفن ونطوره"، بل نميل إما إلى الجمود أو إلى القطيعة الكاملة، وكلاهما طريق مسدود.
الأصالة: هل نحن سجناء الماضي؟
دعونا نواجه الحقيقة: الكثير من المدافعين عن الأصالة لا يريدون إبداعاً جديداً، بل يريدون نسخة طبق الأصل مما كان عليه الفن قبل قرون. يطالبون الفنان بأن يكون "أميناً" للتراث، وكأن الفن وظيفة بيروقراطية لا تحتمل المغامرة.
لكن أي تراث هذا الذي يزدهر وهو محنط؟ عندما ازدهر الخط العربي، كان الخطاطون يبتكرون أشكالاً جديدة باستمرار. عندما وصلت الموسيقى الأندلسية إلى ذروتها، كان الفنانون يدمجون تأثيرات متعددة دون خوف من "فقدان الهوية". الفرق بين الماضي والحاضر أن الأول كان عصراً من الإبداع، بينما نحن نعيش في عصر إعادة الإنتاج.
الحداثة: هل هي فعلاً الحل؟
في المقابل، هناك من يرى أن الحل الوحيد هو أن نرمي كل شيء ونبدأ من الصفر، كأن الحداثة تعني القطيعة الكاملة مع التاريخ. هؤلاء يظنون أن أي ارتباط بالتراث هو تراجع، وأن الفن يجب أن يكون "عالمياً"، لكن هل يعني ذلك أن نصبح مجرد نسخ عربية من الفنانين الغربيين؟
- في الرسم: لماذا نرى فنانين عرباً يقلدون المدارس الغربية بحذافيرها دون محاولة خلق بصمة خاصة؟
- في السينما: لماذا يبدو أن أفلامنا إما مشبعة بالمبالغة الفولكلورية أو مستنسخة من النموذج الغربي دون روح محلية؟
- في الموسيقى: لماذا يجب أن يكون الخيار بين التقليد الحرفي للأغاني التراثية أو إنتاج موسيقى تجارية لا تحمل أي هوية؟
الحداثة ليست مرادفاً لفقدان الهوية، لكنها تتطلب شجاعة حقيقية: شجاعة التجريب والابتكار، لا التقليد الأعمى للغرب أو التمسك الحرفي بالماضي.
هل نحن جبناء فنياً؟
إذا نظرنا إلى التجارب الناجحة عالمياً، سنجد أنها لم تكن مجرد تمسك بالماضي أو ذوبان في الحاضر، بل كانت توليفة ذكية بين الاثنين. اليابان مثلاً لم تتخل عن فنونها التقليدية، لكنها أعادت ابتكارها بطرق حديثة. الهند أنتجت سينما تحتفي بتراثها دون أن تبقى أسيرة له. فلماذا لا نفعل الشيء نفسه؟
الأمر لا يحتاج لمعجزة. لدينا أمثلة عربية تثبت أن المزج بين الأصالة والحداثة ممكن:
- متحف اللوفر أبوظبي الذي يجمع بين الطابع الإسلامي والتصميم الحديث.
- كايروكي التي تستخدم الموسيقى الإلكترونية لكن بروح محلية واضحة.
- إليف شافاك التي تكتب برؤية حديثة لكنها لا تتخلى عن التصوف والتراث الثقافي.
لكن هذه حالات فردية، وليست تياراً عاماً بعد.
التكنولوجيا: هل هي سلاح أم لعنة؟
العالم يدخل مرحلة جديدة حيث الذكاء الاصطناعي، الواقع الافتراضي، والفنون الرقمية تعيد تعريف مفهوم الإبداع. وهنا يبرز سؤال جديد: هل سيستخدم العرب هذه الأدوات لتطوير فنونهم، أم سيبقون متأخرين كما فعلوا مع النهضة الصناعية؟
- الذكاء الاصطناعي يمكن أن يعيد إحياء الفنون العربية، لكن هل لدينا الجرأة لاستخدامه؟
- الواقع الافتراضي يمكن أن يعيد بناء المدن التراثية العربية، لكن هل هناك اهتمام بذلك؟
- الموسيقى الإلكترونية يمكن أن تستلهم المقامات العربية، لكن كم عدد الموسيقيين العرب الذين يفكرون في ذلك؟
التكنولوجيا ليست تهديداً، بل فرصة لم نبدأ حتى في استكشافها بجدية.
متى نبدأ في التصرف؟
إذا كنا نبحث عن إجابة نهائية، فهي بسيطة: لا الأصالة وحدها كافية، ولا الحداثة وحدها كافية. السؤال ليس "أي طريق نختار؟" بل "كيف نصنع طريقنا الخاص؟"
الفنون ليست متحفاً نحرسه، ولا موجة عابرة نتبعها، بل هي لغة حية يجب أن نستخدمها لنروي قصتنا بطريقة جديدة. المشكلة أننا اليوم لا نروي شيئاً، بل نكرر أنفسنا أو نقلد غيرنا.
إذن، متى نتوقف عن النقاش ونبدأ في الإبداع؟
التعليقات